August 09, 2014

نافذة المكتبة

السنوات لا تمر بسلاسة، مطلقاً، إذا تعلق العيش بضرورة فهم الحياة خلال ذوات أشخاص آخرين قضوا قبل أكثر من قرن. الأنانية لا مكان لها. فالعيش في الوحدة عندها يغدو لأجل سبب نبيل يتجاوز حب الذات، بل إن فكرة الحديث عن الذات وحدها، تغدو مبتذلة، حتى وإن كان الابتذال مزاجاً عاماً، يظل مؤذياً. جميعنا نعاني الخوف من الابتذال، أليس كذلك؟ ربما لأجل هذا الخوف، نصنع جزرنا الخيالية الخاصة، هواياتنا، ابتساماتنا ولحظاتنا التي نُحيط بها بكل سرية ممكنة. هذا ما فعلته تلك الليلة، السرية المعيشية للمرة الأولى، هو نفس ما ظل يفعله صاحب المكتبة – المسن المكتباتي – منذ قرابة خمسة عقود كاملة، بأن يُقفل على نفسه باب حجرته. طوال هذه العقود، انعزل تماماً عن باقي العالم كما فعل ذلك كثيراً في المكتبة، منذ التحقتُ به كمساعد شخصي له، كل هذا فيما كانت النجوم القليلة تشع فوق سماء بنغازي، بدأتُ اسمع حفيف أوراق مذكراته، صوته الأجش الخافت أثناء قراءته الدائبة لكتاب جورج برنارد شو: جوهر الأبسنية. كنت أقترب منه ببطء شديد، أحاديثي معه غير مكتملة، اضطر دوماً لأن أعيد تذكر كل حديث، عقب آخر حديث، اجمع الكلمات بصبر في دفتر يضم كل ما قلناه معاً من كلمات، طوال السنة الأولى، كنت كتبت بضبط نصف صفحة من الكلمات المتكررة، من حوالي ثلاث صفحات، تشرح حالته اليومية، من أفعال، قراءة، ملابس، بل حتى السير وعدد الخطوات التي يقطعها عبر الممر إلى أي حجرة افتراضية أخرى، ببساطة كان اقرب إلى زاهد صوفي، الجديد هو إنني قبل مدة اكتشفتُ بأنه يدون يومياته أو ربما مذكراته، أمر طبيعي بالنسبة لشخص يسكن مكتبة تحوي قرابة تسعين 90,000 ألف مجلد كما أنه طبيعي أن يهتم بهذا القدر بفكرة العزلة والخوف من الابتذال، فالتاريخ الذي تخصص فيه، مليء بالأحداث المبتذلة، ذات مرة حكا لي قصة القادة الذين تم قتلهم في حفل عشاء، بعضهم كانوا لا يزالون يمضغون لقيمات في أفواههم، فيما السلاح ينهش لحومهم، كان ذلك في بنغازي، في عينيه كان بريق الغضب والحزن، مشوباً بشيء من القلق، حين أخبرني احدى أكثر الأمور التي تزعجه:
" حين كنت شاباً، كنتُ أخشى الموت وأنا أكل، أو أن أقتل لسبب ما فيما أحمل كيس أكلي، كنت لا أخرج من غرفتي كي لا أموت فيما أنا أحمل الطعام، حتى إنني كنت أصوم طوال الوقت، لا أكل إلا القليل، أشرب غالب الوقت أكواب الماء، حين أتذكر هذا، أدرك مدى تمكن الخوف، سيطرة الأوهام على الحياة، حتى إنني بدأت أدرك بأن الحياة لا تعني أكثر من مجرد فكرة في الذهن، لوقت طويل سيطرتْ علي هذه الفكرة التي يمكن اعتبارها أنانية محضة، لكن لكل فكرة مبرر ".
ضحك تلك الليلة، لم أجد الوقت لسؤاله عن المبرر، كانت ضحكته، مليئة بالألم ثم قال:
" لا أظنني أضعتُ وقتي بمخاوف بلا معنى، فالتاريخ يحفظ بعض الحقائق، تستطيع أن تقرأ، ما كنت خائفاً منه، يحدث كل يوم ".
كان الهدوء المقدس يحيط بأرفف المكتبة، ظلمة شفافة بين المجلدات تهبط على الخشب الثقيل، رائحة المجلدات الثقيلة تنزاح كالضباب، ثم بين لحظة وأخرى صوت أنين خافت يأتي من قسم التاريخ في الجهة الخلفية، كترنيمة تائهة عبر البحر، ترنيمة سلام وهمية تعبر بحراً من الهدوء، بأطياف غير حقيقة من الأمواج التي يتهيأ كأنها صاخبة، صخب في عمق الهدوء، تماماً كتلك الأمواج الضبابية التي تتحرك ضمن كثافة الظلمة. بين لحظة وأخرى، يأتي الأنين الخافت، كنقرة على الخشب، بعد ساعات من أخر صوت قادم من غرفة المسن المكتباتي، إنها غالباً ما تكون أكثر انتظاماً من دقات القلب، بل أشد توازناً من بعض الكتب المشهود لها بالحكمة، كصوت تجشؤ لا إرادي من أميرة حسناء، تظل مدهشة، متقنة، عفوية وذكرى جميلة، تخرق الصمت المطبق على سماء المكتبة. قبل سنوات، حين سمعتُ الأنين للمرة الأولى، أصغيت بانتباه كجواد محارب. كان قادماً من أرفف الخشبية لقسم التاريخ. كنتُ أقرأ مجلداً عن تاريخ الصحراء الليبية بوجهة نظر الرحالة الألماني هاينريش بارث، كانت النقرة واضحة للمرة الأولى، ثم انطلق الأنين عميقاً، حاداً مستمراً أشبه بمقطع حماسي من غناء أسطوري، كانت الساعة قرابة الثانية والنصف صباحاً، حين عبرتُ الدهاليز الضيقة التي تشكلها الأرفف الخشبية الممتدة، فالمكتبة بلا جدران داخلية، الأرفف هي بمثابة جدران، تفصل بين الأقسام، كنت أمرر أناملي على المجلدات المصطفة بنظام ديكتاتوري صامت، بأغلفة مذهبة الأحرف، خطوط مزخرفة بشيء من المتعة الطفولية، في جوف كل مجلد منها مئات الحكايات المكتومة، الحقائق التي امتزجت بأمزجة كُتابها، رائحة الحبر والأنفاس الحية التي مرت يوماً على المكتبة، أخبرني المسن بأنه قضى عشرين السنة الأخيرة وحيداً إلا في تلك الفترات التي يخرج فيها إلى زيارات دورية، كل ثلاث سنوات مرة، إنها حياة أشبه بالسجن، إنما تحفظ ولا شك، الكثير من الإنسانية، إن العزلة بطبيعتها تعلم القسوة إلا عزلة المكتبة، فإنها لا تقتل القلب، لا تسبب أو تعلم القسوة، إنما تمنح قيمة الإحساس بالأحياء والأشياء، بل حتى بالوقت، هكذا تحدث المسن المكتباتي أمام أرفف التاريخ، بين المجلدات وجدتُ كتاباً يتحدث عن صقلية التي دخلها الجنرال الأمريكي باتون، عن الانضباط العسكري والحروب، عن القادة أعداء المكتبات وكتاباً آخراً عن حروب الألمانية القديمة زمن فريدريك الثاني، ظننتُ بأن الأنين حين يصدر من مجلدات التاريخية، يصبح أمراً غير منطقي على الإطلاق، تركتُ كل شيء وابتعدتُ، استمع كل ليلة بانتباه لا إرادي لصوت المتوالي لنقرات التي تتحول أنيناً طويلاً، نغمة ألم. المسن أقفل على نفسه، في خلوته التي ربما ستستمر لأشهر، حتى تلك الليلة التي قررتُ فيها أن أنزل جميع كتب التاريخ، على الأرضية الباردة للمكتبة. هكذا، أنزلت مجلدات جيبون، سقوط واضمحلال الإمبراطورية الرومانية، أنزلت من الأرفف مجلدات توينبي، مجلدات غروب الغرب لأوزولد شبنغلز، تاريخ هاينريش بارث، حكايات كانتربيري لـتوشسر الموجودة في قسم التاريخ لسبب ما لا أعرفه، مجلدات ابن خلدون المحسوبة على التاريخ كمدونات اعتمدت المكتبة على أسلوبها الفريد مع عشرات الأجزاء التي تضم كتب ابن كثير، ابن الكامل، كلها تعامل ككتب تاريخية، بل حتى إنني وجدتُ بأن ألف ليلة وليلة هي جزء من قسم التاريخ الأسطوري، مصفوفة مع كثير من المجلدات اليونانية القديمة في احدى زوايا القسم، تلك الليلة وجدتُ كتاباً روائياً صغيراً أشبه بسيرة ذاتية بعنوان: نافذة المكتبة:The Library Window  نسخة قديمة من جريدة طبعة سنة 1896 لكاتبة تدعى Margaret Oliphant . كان الأنين لا شك قادماً من الكتاب الصغير، كنت مغطى بالغبار، منهكاً من حمل الكتب وإنزالها، باحثاً في الصفحات والفهارس الداخلية للكتب والمجلدات وحتى المخطوطات الشخصية التي جمعتْ منذ قرابة مئة وستين سنة، من المكتبات التي تبقت منذ عصر دولة القرمانلي، مكتبة أحمد النائب، مصطفى الخوجة، كلها مصنفة بأسلوب جديد، ليس مستغرباً أن أجد كتاباً عن سيرة ذاتية لإحدى السيدات القارئات ضمن كتب التاريخ، فمصطلح مثل التاريخ الشعري ظللتُ أسمعه منذ عام 1998 حين انضممت لنواة الأولى للمكتبة في الجنوب بدعوة من صديقي بركاى هامشيمي. يرى المسن بأنه مصطلح يمثل ملخصاً لإحدى البدايات المتأخرة للمكتبة، خلال جلساتنا النادرة سألته:
" لماذا يهتم أمناء المكتبات بالتاريخ الشعري؟ ".
عندها قال متكهناً:
" لا أحد يعرف كل الحقائق حول المكتبة، إن ما يتم ترديده، كما سمعته من الأمناء الذين عاصرتهم في عشريناتي، هو إن الأمر مرتبط بالشاعر الليبي القديم: كليماخوس الذي يعتقد بأنه أحد أوائل واضعي المكتبة، كما إنه عمل في احدى أقسام مكتبة إسكندرية، كونه شاعراً مهتماً بالتاريخ، اكتشف أهمية كتابة التاريخ الشعري، إنه الوجه الأكثر قدرة على الإحاطة بالتاريخ ".
هذا بضبط ما أخبرني به.
منذ أخذتُ كتاب: نافذة المكتبة من بين كومة الكتب التاريخية، توقف الأنين، هدأت الأرفف، ثم أحسست مع الأيام بأن الأسرار ليست مجرد شائعات كما كنت أعتقد، بدأت القصة التي تروى عن أسطورية المكتبة تتكشف أمامي، وإن ما ظننته سجناً بلا معنى، بداية لي أشبه ببداية خلق جديد، لذا تمسكتُ بالكتاب جيداً، قرأته على مهل، صفحاته مليئة بالحواشي مكتوبة منذ زمن بعيد، إهداء غير معروف، إنما استطعتُ أن اقرأ بشكل مبهم كلمة صوفي، مكتوبة بالعربية، إنها احدى المشاعر النادرة التي أحسستها مجسدة في أحرف باردة، بالرغم من أن الكلمة بدت باهتة إلا إنها كانت تحمل إشعاعاً روحية أحسست بقوته، إلى جانب عام 1936 تاريخ مرتبط بالحروب الأهلية.
" لنرى ماذا هناك ! ".
هكذا قلت في نفسي، فيما واصلت القراءة حتى عصر اليوم التالي.
كان العالم خارج النافذة دائم التغيير. المارة العابرين بملابسهم الملونة، الأطفال المبتهجين، متقافزين في الحديقة، فتيات صغيرات يعلبن الحجلة، طيور تائهة تحط على درابزينات المطلية بالألوان الثلاثة التي تمثل كفاح الوطني، فيما هي تحدق في الأطفال بحذر شديد، قلقة أسفل سعفات أشجار الدوم المحتجة، مرتسمة على أسفلت الطريق المبلل، بفعل الأمطار الصباحية، تظهر بجذوعها الغليظة كأفخاذ فيلة متجمدة، إنها أكثر ضخامة، بحيث تبدو هالة من الجمال من بعيد، لا يخفف من سطوتها إلا ضحكات الأطفال التي ترن مالئة صحن الحديقة بالبهجة. أولياء الأمور يقرؤون الصحف، يتبادلون التحيات الإسلامية والوجبات، أكل لقيمات من صحون بعضهم، شطائر المنزلية الإعداد، أحاديث مشتتة سرعان ما تغدو نقاشات محتدمة، عن تاريخ الأهلي القديم للقبائل، سكان المنطقة قبل قرن من الزمان، الأنساب التي هاجرتْ، سجل الوفيات لأعيان المدينة، إنها معارك فكرية لا تنتهي، لدينا في المكتبة دراسات كثيرة متناقضة عنها، تاريخ الحروب الأهلية القديمة، حاضر بجانب الألعاب، إنما الأطفال يعلبون بلا مبالاة، وقد احتمت الطيور بظلال الجذوع الضخمة، باحثة في تجربة نادرة عن الظلمة، فكرتُ مراراً بأن طبيعة الأشياء تتغير حين يتعلق الأمر بالحروب، تلك القصص التي تضمها المجلدات، طبيعة المكتبة نفسها التي ولدتْ لمتابعة تلك الحروب القديمة، إن هذا الجزء الأكثر ظلمة في المكتبة إنها وليدة الحروب والعمليات الاستخباراتية الشرسة طوال العصور، ثلاث أرباع الكتب التي أراجعها مرتبطة بجرائم قتل غير مبررة، إنها تصور فكرة القتل في أبشع صورها، القتل حين يكون فكرة، مساءلة لم تنتهي مطلقاً، إنها مكونة لفكرة المكتبة نفسها، كما أكد المسن في احدى أحاديثه النادرة التي لم تبدأ إلا بعد ثلاث سنوات من عملي برفقته، حتى لو لم تخرج من المجلدات كانت تلك الفكرة واقعية جداً، حتى الكتب المقدسة لا تمتلك فكرة مغايرة عن القتل، بل في أحيان كثيرة هي تتبع لفكرة القتل نفسها، خلال تلك الليلة قبل سنوات، نظر المسن في عيني مباشرة قائلاً:
" إنها مساءلة ليست للحل، إنما للمداورة ".
حين سألته:
" كيف؟ ".
لم يجبني.
مع الأيام عرفت بأن المشاعر التي تأتي بعد قرن من الحروب الأهلية ربما حتى بعد عشر سنوات على مجزرة كبرى، هي المبرر الوحيد لسكوت المكتبات، إلا عن التوثيق، مهمتها الأساسية هي الحديث عن الأمر في إطار من الوضوح، نعم حدث هذا لأجل هذه الأسباب، طالما هذه الأسباب متواجدة، فإنه سيكرر نفسه، ببساطة عرفت بأن الحديث حول الأسباب هو هدف المكتبة، لذا كنا نُخرج كتب الحروب الأهلية القديمة للقراءة دوماً، تلك الحروب التي تظل الشبح الثالث بين شخصين يتحدثان على مقعد في حديقة صغيرة، فيما أبنائهما يلعبون بابتهاج، بلا مبالاة بأحاديث الكبار. رجل خمسيني في هيئة مدرس يرتدي قميصاً بنياً مخططاً بالأبيض محشواً في سروال بحمالات بنية، يضع على عينيه نظارات سميكة الإطار، بحيث يبدو أخلاقياً جداً، يصطحب طفله الشغوف الذي يريد التحرر من يده، لينطلق كقطة مرحة تعلب بكرات الصوف، كان طفلاً معافى، بملابس عسكرية صغيرة، لا بد بأنها ملابسه من العيد، ركض باتجاه فتاة صغيرة تدور حول نفسها، مستمتعة في استماع لوقع حذائها الأحمر ذي الشرائط الشفافة، حين جاءها الصبي، أخذت تشير إلى حذائها، ثم جلست على أرضية الحديقة، جلسا معاً وأخذ الصبي يلعب بالحذاء وقدميها معاً، كانت الطفلة تضحك بعمق، ربما لشعورها بالدغدغة أو بالبهجة الفطرية، الأب يراقب بصمت شارد، ثم يفرد جريدته ليشرع في عالم الكبار، بحثاً عن أشياء مقلقة، كما يفعل أي اثنين يلتقيان في بنغازي، كان بعض الكبار يتحدثون عن الأشياء الكبيرة التي حدثت قبل سنوات، يبحثان عن تفسير معقول للأمور السياسية التي يظنان بأنها غير مفسرة جيداً، غالباً ما يصلان لنتائج أسطورية مذهلة، وصلها الجميع قبل ذلك، الأسطورة في ليبيا تولد يومياً، جميع الأحداث تجد طريقها لتصبح أسطورة، إن الأحداث لا تكون إلا حين تصبح أساطير في الشارع الليبي، يحدث ذلك على مرأى الجميع، إن المكتبة نفسها تحوي أكثر هذه الأساطير جدلاً، المتعلقة بالقادة السياسيين، القتلة الشعبيين الأكثر دموية، ذلك المصرفي الذي تم قتله بأبشع أسلوب في الجنوب الليبي، بعد التعذيب تم دفنه حياً، هذا ما أكده الطبيب الشرعي حين وجد الرمال في رئتيه، قصة لاقت صدى مرعباً، أصبحت بعدها مقياساً لكل ميتة بشعة طوال سنوات، حتى سقط الزعيم الليبي بين أيدي الثوار، عندها بدأ الناس بتأريخ أسطورة جديدة، ميتة بشعة أخرى، كمقياس حقيقي للبشاعة.
" إنها مهمة المكتبة بالنسبة لي ".
قال المسن، بهدوء ثم أضاف:
" حين تتعلم الشعور بأنها أمور بشعة، تتعلم أن تكون أقل قسوة ".
تلك المشاعر المختلطة انتابتني وأنا أتطلع بصمت إلى ملابس بائع الحلوى، المتنكر كمهرج بأنف كبير دائري أحمر اللون، إلى جانب شعر بألوان وردية ممزوجة بالأزرق والأصفر، مع ملابس ممزقة، مرقعة بشكل مبهج، كان الأطفال يتجمعون حوله، لفت انتباههم، كانوا يحبون وجوده في عالمهم اللا محدود، المليء بالألوان، فيما أخذ الرجل يمنحهم الحلوى مقابل قطع النقدية الصغيرة، التي كانت تصدر أصوات مبهجة مشابهة لضحكات الأطفال، كان يبيع الحلوى للأطفال، كما أكواب العصائر الباردة والساخنة للآباء، أظنني أعرفه، مصري من منيا، التقيت به قبل سنوات على الكورنيش، كان يتحدث وقتها عن وفاة ابنته فجراً، كنت أستمع إليه بصمت، لم أحادثه وقتها، لم يسألني شيئاً، جلس بجواري، تحدث عن وفاة ابنته، بكى ثم انصرف، بعد بسنوات التقينا في السوق البدرية، هز رأسه محيياً، لم أعرفه، بادلته التحية، حتى حدث أن تذكرته أثناء كتابة احدى ملخصاتي اليومية في الظلمة الشفافة للمكتبة، من نافذتها أراه كل يوم منذ أكثر من خمس سنوات، مطلقاً لا يمكن تجاهل صوته، يطوف بابتسامته التي بلا صوت، بكلمات التي بلا صدى، ينادي على الصبية والفتيات مستخدماً أصابع يديه المليئتين بالألوان، ضامناً رزقه، كما يمازح الكبار، بذات مزحات التي يكيلها الصغار، غالباً ما ينجح، بالرغم آلامهم ينجح في إضحاكهم، دائماً دون أن يتجاوز عتبة الابتسام. داخل المكتبة نهراً، وراء النافذة الزجاجية، تلك الأصوات تختفي تماماً، حين أشرع في المرور عبر الأرفف الخشبية الثقيلة، إنها أصوات ترن في خيالي فقط، أخلق لها نبرات خاصة. فأنا لا أعرف أحداً في الأسفل، لم أسمع ضحكة طفل منذ زمن طويل، لم أتحدث مع بائع الحلوى، بل لم أقابل أحداً منذ أكثر من عقد إلا المسن المكتباتي، لا وجود لرجل خمسيني برفقة طفله أو حفيده، كما إنني أتخيل صوت السعف المحتج، أخبرني صديقي ذات مرة: " يمكن للحياة أن تغدو وهماً، أن تعيش تجاربك ذهنياً، أن تتعرف على أناس أنت لا تتعرف بهم، كل شيء لا تحبه، يختفي، لا تراه، أنت تعيش هنا ". كان ينقر على صدغه، تلك النقرة التي تسبق الأنين الخافت في المكتبة. كل حدث عشته، لم أعشه. أمر مرتبط بالحركة في المكتبات، بالمجلدات الموجودة على الأرفف، بأغلفتها القاتمة المرقونة بأحرف ذهبية مضغوطة كعناوين، بأسماء مستعاري الكتب على الغلاف الخلفي من الداخل، بالحكايات المروية في متون الكتب، كلها أحداث نعيشها ولا نعيشها. هكذا فكرتُ في احدى خلواتي، بعد اعتكاف المسن المكتباتي، حين أكون وحيداً، أشرع في التفكير بعمق. إنما هذا لا يعني إنني أمتلك وجودي بمجرد الشروع في التفكير، إنني أفقد الكثير من وجودي، لأخلق وجود العالم من حولي، مع ابتسامة بائع الحلوى الكهل، حكاية وراء كل مستعير للكتب، كضوء آخر يمكن تتبعه، العيش برفقته حتى نهاية نفق المظلم. حين رأيت المسن جالساً على كنبة، محاطاً بالكتب، وعلى وجهه ابتسامة لهفة، يحاول جاهداً إخمادها، دفء يديه، عينيه المرحتين، لحيته المسترسلة ببياض ناصع على ملابسه الكالحة السواد كأحد مشايخ القرن السابع، وعلى أصبعه الخنصر الأيسر خاتم غليظ، حين اقتربت منه، لاحظتُ بأن عينيه زرقاوين، طلب مني الجلوس، ثم جلس من بعدي. فنجان قهوة، أمامي. أعدها بلا شك قبل حضوري بدقائق، لا شك أعد لكل شيء، حتى إنه قرأ عني.
" أنت من تازر ".
قالها بابتسامة، ذاكراً اسم مدينتي كما يرد في لغتي.
" نعم ".
عندها قال.
" حين تتحدث عن تازر عن ماذا تتحدث؟ أخبرني عن أول شيء تذكره كلما سمعت اسم تازر ".
قلت بصدق تام، دون مقدمات:
" سنة 1910 تم فضح قصة عشق نقية كضوء القمر، بين شاب في السابعة عشرة وفتاة تصغره بعامين، وجدوهما في خلوة بين المزروعات احدى المزارع، منذ تلك اللحظة الليلة أصبح العشق يذكر الجميع بعارهما، ذكرى دفع ثمنها المئات من أبناء القبائل. الشاب ابن الشيخ أنري أحد كبار حماة القوافل، يدعى كوناى[1]. أما الفتاة فتدعى: باية ابنة زعيم يدعى هامشيمي، أحد الأطراف القوية المنضوية تحت لواء السنوسي الكبير، بسبب تلك الفضيحة، حدث شقاق في البلدة، أعقبتها مناوشات حربية قاسية، استغلها البعض في مهاجمة القوافل، ضرب معسكرات الخاصة بالسلطان التيدا - التبو الذي كان يحاول جاهداً إعادة النظام للمجموعات السياسية، كان قد عقد وثائق سلام مع الشعوب المختلفة في الصحراء، دخل في حلف قوي مع السنوسيين، وقع هدنة مع الفرنسيس، ثم حدث أن فقد إحدى ركائز قوته المتمثلة في مجموعاته العسكرية التي تحمي طرق القوافل وتحفظ السيادة، في تلك الفترة من يتمكن من السيطرة على الطرق التجارية هو من يكتب تاريخ المكان. السلطان فقد ركيزتيه في هذه المهمة الأساسية، حدث أن توصل الشيوخ إلى ضبط الأمور بأن يغادر الشيخ أنري مع عائلته إلى غرب الصحراء، موزعين ما بين ليبيا والنيجر وأن تبقى عائلة هامشيمي موزعة ما بين ليبيا والتشاد، ظن الجميع بأنهم لن يلتقوا مجدداً، إن السلطان الشاب نفسه، الذي هو من شرق الصحراء كان قد نال الشرعية بمباركة شيخ من غرب الصحراء، في تلك الأيام شهد حدثاً قاسياً عليه، ثم بعد أكثر من نصف قرن، جاء شاب في نهاية العشرينات، كما يحفظ التاريخ إلى تازر، كان يجر وراءه أكوام من الكتب، نزل عند مسنة من عائلة أنري لم تترك البلدة، أمام دهشة الجميع، كان يرافق الحاجة باية كل يوم، والتي تبتهج لملاقاته، كانت الحاجة باية قد كبرت، رفاقها الشاب كمريد روحي حتى إنه تلقى وصيتها قبل وفاتها سنة 1967، الجميع كان يردد بأنه ابن الشيخ أنري، حين توفيت الحاجة باية اختفى الشاب من البلدة، نسيه الناس، حتى ظهر شاب آخر منتصف الثمانينات، تزوج من ابنة الشيخ إبراهيم حفيد الشيخ أنري، بوساطة من احدى القريبات القويات في البلدة، كان الأهالي يعرفون بأنه يمت بصلة لشيخ أنري، ثم دون أن يتأكد الشك اختفى الشاب، تاركاً زوجته وابناً ذكياً في السادسة، هذا الابن الذي كان سبباً في تعرفي بالمكتبة، بعد أن أشركني في مشروع كتابة تاريخ البلدة ما بين عامي 1998 حتى عام 2003 هو نفسه: صديقي بركاى هامشيمي ".
هكذا رويت للمسن ما تعنيه كلمة تازر بالنسبة لي.
رأيت اهتمامه، الهزة الطفيفة الموافقة برأسه، عينيه تبتسمان لم ينبس بكلمة. ارتشف بوقار من فنجان قهوته. تلك الجلسة التي ستتكرر طوال فترة تواجدي في المكتبة، التي هي عبارة عن شقق مفتوحة على بعضها، قام بإلغاء الجدران بذكاء واضح، ثم وضع بدلاً منها أرفف من الخشب الكاجو، عليها تصطف الكتب: الموسوعات الفنية، الأدبية، الدينية، التاريخية مع كثير من التحف الأثرية التي تمثل أجساداً بشرية في حالات انتشاء متعددة، تماثيل صغيرة لسيدات من قورينا، لبدة، يوربيديس يحملن جرار الماء، بملامح منهكة. الحسناوات الليبيات الثلاث في نظرة صاخبة، شبيهة بتلك التي أرسلتها صوفيا لورين ذات مرة في الصحراء الليبية، المملكة الأسطورية، لا تزال تائهة في الفراغ الموحش.
غرقنا في الصمت، معاً.
الصمت نفسه الذي أراه يتكاثف عبر الطرقات، كل ليلة.
بدأت كتابة تاريخ المسن في تلك الليلة من تلك السنة، التي أقفل فيها المسن – صاحب المكتبة التي أعمل بها – على نفسه بابٌ لا ينفذ منه إلا الضوء الخافت وصوت حركته البطيئة داخل حجرته الأشبه بالصومعة السرية، أستمع مطرقاً لصوت أوراق دفاتره الخاصة أثناء تصفحه المحموم، كأنه يبحث عن معلومات تتيه منه على الدوام، فيما الرياح تواصل تحريك ستائر التي تغطي النافذة المطلة على حديقة صغيرة للأطفال محاطة بأشجار الدوم ذات جذوع عملاقة. حديقة بالرغم خلوها التام، إلا إنها لا تنفك تدعو إلى التأمل، فيما تقف دار سينما من طابقين، في الجهة الشرقية من الحديقة، تفتح مرتين أسبوعياً، كما يمكنك النظر مطولاً إلى مبنى الجوازات دون إيجاد فرصة لفهم كل تلك المعالم الغليظة التي لا تنفك تظهر كطابع معماري صامت، بلا جذور أو حكايات تمت للجوار بصلة، بل هي مرتبكة تائهة أقرب إلى الهندسة الفاشية التي غزت بعض أكبر مباني الليبية منذ فترة الاحتلال الايطالي، هذه الحكاية الوحيدة التي تظهر في ملامحها الغليظة، معمار لا يهدف إلى بناء أي طابع فني خاص، إلى جانب محال التجارية صغيرة بلمسة ديكتاتورية، تصلبت وغدت ذات طابع حانوتي، متسلسلة بخجل واضح، ربما من الحياة الجديدة المتدفقة بحماس في المعاهد الخاصة، ذات الواجهات الزجاجية الزرقاء الممتدة برحابة السماء، لأجل تعليم اللغات الأجنبية. كنت أنحني على أوراقي، متجاهلاً كل تلك الإغراءات التي تدعوني للكشف عن رابط واحد مقنع داخلي، لكل تلك المتناقضات التي تموج خارج النافذة، مسائل كنت قد وقعتُ في براثنها قبل سنوات طويلة، لم تنتهي مطلقاً، أحياناً أشرع في الاعتقاد بأنها لم تنتهي أبداً، أتطلع في المرايا الموجودة في قاعة الفنون، أتطلع بعمق ليغدو كل شيء محدداً، متقلصاً في مساحة عيني، العالم كله الذي عشته، لم ينتهي بعد. كنت كتبت في هامش صفحات المجلد الذي أطالعه: " لا منطق خارج المكتبة، لم تبق لي الكثير، أود أن أرى النور في رأسي، قبل أن أشاهده بعيني، وأشعر بدفء وقعه على جلدي، يتوجب علي أن أنتهي بسرعة ". كان ذلك قبل سنوات من دخولي المكتبة، كنت وقتها أعاني الكلمات على نحو فردي جداً. في وحدتي، كنت أفكر بأن التاريخ غدا تائهاً، معزولاً كالماضي الاستعماري، الذي صار جزء من أكثر مكتسبات المستعمرات السابقة، مباني، لغة، ذوق فني أو حتى رغبة مستقبلية خلفها المستعمر في تلك البلدة الأخرى. كان البحر يهدر، مؤكداً وجوده، في ساعات الليل يمكن سماع أمواجه الشقية، بصخب، بوضوح، كما يمكن جداً الحديث مع كل موجة بشكل فردي، إنما الأمر كله يأخذ اتجاهاً صوفياً خالياً من الرهان الجسدي، كان هذا يزيد من الابتعاد عن واقع الحقيقي، كان يجعل من عملية التفكير نفسها غارقة في رؤى مناقضة للهدف المرجو من التفكير نفسه، إنه أسلوب عويص يقود إلى الحلم، إلى مادة خام مناقضة لكل توجه فكري مطلوب في الجمعية التاريخية، إنما هذه المادة بالذات ما يجعل من قيمة التاريخ مرتبطة بتلك اللحظات الصوفية التي يجمعها الكاتب، لذا كنتُ حريصاً على هذا الجمع لمادة الأحلام. لذا لم أكن مستغرباً حين قال لي المسن المكتباتي في احدى جلساتنا الهادئة في بهو القراءة، على نحو غير مسبوق:
" لم يتبق الكثير لي ".
كنت أطالع في المجلد الثالث من مجلدات هاينريش بارث، فيما كان الكتاب الصغير بين قميصي وجلدي ينتظر أن أشرع في قراءته مجدداً.
حين أضاف:
" أنت تعرف كيف يمكن أن يكون هذا ".
هززتُ رأسي، لم أكن بارعاً في استخدام اللسان، في المرات القليلة التي أحسن فيها استخدامه أشعر لاحقاً بأنها لحظات لا تمت لي بصلة، وإن شيطاناً تحدث بدلاً مني، إنما في الكثير من الأحيان، أكتب ما سأقوله طوال ثلاثة أيام، ليس لأني لا أمتلك ثقة الحديث، إنما لا أمتلك ثقة في فهم الآخرين للأحاديث التي قد تطول.  
المسن المكتباتي !
صوفي قديم في بردة فضفاضة كقطعة من ليل، جالساً على الكنبة، بلحيته الناصعة المعطرة، ملابسه الداكنة، عينين المتسعتين كمحيط أسطوري، كان لا يبدو كما السابق، منذ أشهر هو يعاني أزمة ما، لا أفهمها، إنما هذه طبائع شائعة في المكتبات أشبه بالرغبة الطارئة في إسكات الهدوء المطبق، بحركة الأوراق، أو بخشخشة الأرجل تحت المقاعد، مع إنه لم يكن يتكلم بلسانه، إلا إن عينيه كانتا تتحدثان بزخم، حركاته الكثيرة، سيره المتواصل عبر الممرات، بحثه الهادئ عن المجلدات المنسية بين الأرفف، إعادة قراءته لبعض الكتب، إنما في الفترة الأخيرة لم يكن يقرأ إلا في جوهر الأبسنية، يلمح في الأغلب إلى إن العقل الايرلندي، يشبه، ثم يتحدث عن الملاحم في كلمتين أو ثلاث، ويدير ظهره متجهاً لغرفته، التي لا يمكث بها إلا عدة ساعات ثم يخرج تائهاً عبر الممرات، كشبح قلق.س كنت أتجاهل كل هذا، حتى جاء ذلك اليوم الذي جلس فيه على الكنبة بجواري، من دون كتاب أو مجلد أو حتى فنجان قهوة ثم قال كأنه ينفجر من الداخل:
" ولدت في طرابلس ".
هكذا بكل قدسية ممكنة، قالها كأنه يذكر نفسه، ثم اتجه إلى داره منهكاً، حين أفقت من صدمتي، كتبت على أوراقي: " ولد في طرابلس ". ثم شرحتُ لنفسي ما حدث بحثاً عن تفسير ممكن، معقول لكل ما جرى، لم يكن الأمر صعباً، مطلقاً أن أفهم تصرفه على هذا النحو، ثم قلقه العصي على التفسير في الوهلة الأولى، يغدو فهمه من أبسط الأمور، وضعت مجلدي على الطاولة ثم بدأت بمراقبته، كان يدون في أوراقه طوال الوقت، ثم ينظر إلى الجدار المصمت فوق المجلدات مباشرة، ليشرع في التدوين من جديد، لم يكن يمزق أي ورقة، بل كان يكتب على مهل شديد، لا شك إن تمزيق الأوراق مهمة ذهنية بالنسبة له، أسلوب تأليفه غريب على نحو ما، حتى لو كان يدون يومياته، كنت أتطلع بصمت إلى طوال اليوم، متخذاً منه مجلسي السري، بإزاحة بعض المجلدات من الرف، بحيث يبدو لي مكشوفاً دون أن يدرك، منكباً على كتابته بهمة غريبة، أحياناً كان يغرق في التفكير، مدة طويلة تصل في بعض الأحايين لساعة كاملة، يكون خلالها جامداً كتمثال روماني، في وضعية رائعة من الجمال والهدوء، بحيث يسمح لي بدوري في التفكير والتأمل حوله، أتطلع إلى كل جعده من تجاعيد المرتسمة على جبينه المكتظ، إلى كل شعرة بيضاء في لحيته، إلى تلك العقصات الأنيقة في ملابسة والمتوافقة مع لحيته المسترسلة كصيني. " لم يتبق لي الكثير ".  هكذا أخبرني قبل اعتكافه الأخير، ثم بدأت بسماع صفحات مذكراته، الظلال المتحركة والتي تمتد إلى الممرات من تحت خصاص الباب، نهاراً. الضوء البارد المنساب للخارج، ليلاً. فيما كانت أنفاسه تترد عبر الأروقة والممرات، كنت أشعر بها تلتهب، في جزء مني جعلت من أمين المكتبة يظهر كأنه فقط ملخص في كلمتين واضحتين: المسن الافتراضي. كنسخة حية لكل مسن لم أره في تاريخي عائلتي الذي أبحث عنه بصمت، إنها جولة بسيطة تنتهي بي عبر مجموعة كبيرة من المسنين الافتراضين، الذي تجمعهم صفحات مذكراتي المزعومة اللانهائية. " يتوجب علي أن أنتهي بسرعة ". رددتُ في نفسي وأنا أتأمل المسن في اعتكافه وانكبابه على الكتابة. مسنين اعرف أسمائهم، قصصهم دون أن أكون قادراً على التمسك بأي خيط يأخذني عبر دروبهم المتشعبة، في لحظة تصورت بأن المسن المكتباتي هو الخيط الأول في طريقي إلى العمق التاريخي، كما تخيلت ذات مرة بأن صديقي هو الخيط.
لا يمكنني التحرر منه
أعيش في قمم يمتلكه غيري
لا يمكنني التحرر منه
قبل سنوات سمعت عن قصة جد لي، عاش مغترباً، بصحبة زوجته الشابة إلى مرتفعات درنة، ثم عبر الزوايا العيساوية خلال أزقة بنغازي، رحلات المجاهدين بين شعاب الجبال والنجوع، حتى قُتل وحيداً بين شعاب المحيطة بالجبال الممتدة بالخضرة والصخور. أتطلع مستكيناً إلى ملتقى الممرات. أجلس على مقعد ضمن فسحة صغيرة، داخل شقة في بنغازي، أكتب بصمت مذكراتي الشخصية التي استهلكت كامل وقتي، ظننتُ بأنها لن تنتهي. ضوء شبه خافت، صوت هادئ لتكتكة الأرفف المثقلة بالكتب والمجلدات، أجلس في فسحة صغيرة، داخل شقة في بنغازي، أكتب بصمت مذكراتي الشخصية التي استهلكت كامل وقتي، ظننتُ بأنها لن تنتهي، حتى التقيت بالمسن المكتباتي داخل مكتبة خاصة لقاضي متقاعد، بدا لي غير قابل لتحديد السن، كان يلوح أكثر عمقاً كلما نظرتُ إليه، لحيته البيضاء الناصعة المسدلة على صدره، لون عينيه الشبيهتين بزرقة مياه البحر، متسعتين، مغرقتين في الصفاء وبهجة النسيان، فيما تلونت شفتيه بحمرة قانية، ملفتة لا تدعو للخجل. كنت جئت مباشرة من الشارع بحثاً عن تاريخ مبعثر، أحمل عناوين شخصية غير مكتملة لقضاة متقاعدين، محامين، كُتاب مسنين، صحفيين من زمن لم يعد ذا تأثير، كل ما هناك مجرد مقالات كتبتْ، لم يهتم بها أحد. طلب مني المسن الجلوس على كرسي بالقرب منه.
" كيف أنت؟ ".
سألني بنبرة رجل أخلاقي، تلك النبرة المغلفة.
" بخير ".
أجبتُه محدقاً في عينيه، متحدياً.
حين أتذكر هذا، أشعر بمدى خطأ حكمي على رجل نادر مثله، عاش بشكل ملفت للانتباه، اسمه مرتبط بفترة تهمني جداً، لأجل هذا كنت في جانب مني صحفي مهتم.
أخبرني وقتها بلهجة محايدة، قائلاً:
" القنصل المالطي حدثني عنك ".
هززتُ رأسي، متفهما الأمر كله، في احدى أولى لحظات شعوري بأهمية ما يقومون به. القنصل المالطي هو لقب مسن آخر أصغر سناً، من أتباع جمعية التاريخ الشعري، كما تم تعريفها علناً في حين إنها مجموعة أقرب للسرية تحمل أفكاراً سياسية لامعة لا يمكن تجاهلها، كان أول شخص ألتقي به لأجل البدء في مشروعي الكتابي، كان القنصل هو حلقة الوصل إلى الجمعية التي تنتهج المكتبة كذاكرة لها. المسن المكتباتي الذي يعمل كأمين لمكتبة القاضي الذي اسمع عنه ولا أراه، المكتبة هي شقق سكنية، أجلس بين أرففها محاولاً صياغة نصوصي الأخيرة، الأقرب إلى مادة خام، حتى إنني بدأت أكتب عنه – المسن. كان يتوجب علي أن أنتقل معه كما أخبرني شخصياً، لأعمل كمساعد لأمين المكتبة، كما ينبغي على أن ألخص بعض الدراسات المتعلقة بالتاريخ الشفوي الغير المكتوب في نصوص حقيقية، مهمتي أقرب لصحفي التقصي، أجمع تلك النهايات القديمة لكي أشرع في وضع مقالة يتم حفظها ضمن قسم خاص بي، بعد أن يتم أخذ نسخ من العمل إلى حيث يفترض بأنهم يستفيدون منه في شيء ما، أفترض دوماً لدواعي تتعلق بالغرور، بأنه سياسي. إنما العمل نفسه كان يدعم رغباتي الفعلية المتمثلة في كتابة تاريخ حقيقي يخص أسرتي، كنت أتتبع تاريخ أحد أجدادي وهو أمر لم يفت المسن ملاحظته، حين صرح لي في احدى جلساتنا عن الفائدة المباشرة التي وجدها في المكتبة، حيث وجد تاريخ أسرته التي تاهت عبر البلدان طوال عدة قرون، أخبرني بأنه من أصل شركسي، كما إن في عروقه تجري دماء يهودية وأسبانية قشتالية، كذلك يضج جسده بالدم التركي والعربي، بدا مبتهجاً فيما هو يعلن ذلك، كان منتشياً جداً خلال تلك الأمسية. كنت كتبت دراسة عن التواريخ بعض الشخصيات الغريبة في عائلتي، ثم عدتُ بها لسنوات طويلة إلى الوراء قرابة مئة وخمسين عاماً. فيها بعض التفاصيل التي لفتت نظر المسن المكتباتي، فهو كمؤرخ في المكتبة، يحمل تلك الرغبة في إنتاج نص مشابه، وهو أمر شرحه لي القنصل المالطي مباشرة، أثناء طريقنا إلى المكتبة، كان يتحدث بلهجة ليبية صميمية، حين أعلن لي صراحة بأنني سأكون جزء من عمل تاريخي، وهي فكرة جعلتني أشعر بالرهبة والغرور، آنذاك كان الغرور يأتي مسرعاً مع أبسط الأشياء، حتى إنني اعتقدت في بعض اللحظات إن الغرور ليس إلا فرحة غامرة، مربدة كإعصار جامح، ما كنت أظنه فرحاً، صرت أعرف بأنه غرور بشري لا معنى حقيقي له إلا كونه فرحاً غير مسيطر عليه.
" فترة كتاباتك في تازر، كانت مثمرة، مقالاتك تؤهلك لدخول المكتبة ".
هكذا دون مقدمات، وجدتُ نفسي أطوف أرجاء مكتبة سمعت عنها الكثير، بعد أقل من ثلاث سنوات على خروجي من مكتبة أخرى أكثر ضخامة، إنما هذه المكتبة الصغيرة في شمال بنغازي تحوي سراً كبيراً، كانت الأرفف البنية، شبه غارقة في العتمة، إنما القراءة مريحة جداً، لا صوت إلا إذ فتحت النافذة قليلاً فإن صوت البحر ينساب مكتوماً إلى أروقة المكتبة. كان القنصل المالطي أخبرني بكل تلك الخيوط،  حين وصلت بنغازي للمرة الأولى من الجنوب كنت أرغب في البحث عن صديقي في أزقة المدينة، كان البحث أمراً أشبه بإيجاد إبرة في كومة قش، بنغازي يصفها سكانها بأنه أشبه بعلبة صغيرة إنما حين يود شخص ما أن يختفي فيه، تصبح أقرب إلى محيط شاسع، وتكون كمن يبحث عن شيء في عمقها، حتى بارجة حربية، ستختفي دون أن تعثر له على أثر، صديقي هو من وجدني في تلك الفترة، قضيتُ معه ثلاث أشهر، حتى وقعت حادثة السفارة الإيطالية، المليئة بالأسرار التي لم اكتشفها كلها بعد، كان صديقي يبدو محموماً بالحماس في تلك الأيام، عبرنا معاً مسافة توازي المسافة إلى القمر، ما بين البيوت، المقاهي الحدائق، في جلسات سرية كمن يعدون لثورة دون أن يذكروا أي كلمة عنها، كنت أتبعه عبر المناطق بصمت لا أجرؤ على سؤاله عما يجري، حتى تلك الليلة التي منحني فيها عدة عناوين، قرابة التسع عناوين شخصية. " تتصل بهم إن لم يتصلوا بك بعد ثلاثة أيام بضبط ". هكذا أخبرني صديق، ولم أره بعد ذلك، لم يتصلوا، اتصلت ولم يجيبوا، ثم أقفلت جميع الأرقام، طوال شهر كامل، ثم في احدى الليالي اتصل بي أحدهم.
طلب لقائي
وافقت !
كان ذلك قبل سنوات.
لفت انتباهي بنبرته المميزة، في لهجته السلسة، إنه سوداني. طلب مني الجلوس إلى جواره، تطلعتُ إلى البحر من وراء عينيه الصافيتين، أعاد الاتصال بي ليؤكد هويته، في عينيه ابتسامة طفولية، لا تتعارض مع سنه، تجاعيد وجهه ولا حتى مع عينيه العاقلتين، الحالمتين، بدا أشبه بالطيب صالح يشبك أصابعه، وهو جالس على المادة الإسمنتية، لا يكف عن تشبيك أصابعه حتى وهو يبتسم ملتفتاً ناحيتي، حين رن هاتفي.
قال:
" لقد فعلتها سابقاً، إنها دائماً تنجح دائماً ".
بدا منتشياً لانتصاره في خداعي. حين اتصل بي صباح ذلك اليوم، كانت لهجته ليبية صرف، دون لكنة، حين حادثني باللهجة السودانية، بدا لي تناقضاً هائلاً، بين مكالمته، وبين ما اسمعه، إنه ليس بالأمر الكبير، إنما عندما تؤخذ على حين غرة، يغدو كل شيء أمر كبيراً، هذا ما حدث.
جلستُ في الأثناء ثم قال:
" من السهل إدهاش الليبيين، يكفي أن تتحدث لهجتهم ".
ابتسمت، تذكرت، قريب لي من التشاد، كان يتسلى بعدم قدرتي على نطق حرف الثاء في الأثاث، وأنطقها بالتاء أتات، أمر يضحكه، لا بد بأنه نفس الموقف، لذا ظللتُ ابتسم. ملاحظاً بأنه يبدو في الستينات، بالرغم المزاح، فإن نبرته تحافظ على وقارها، بدلته الأنيقة، كتفيه المتساويتين، شعره الهادئ ولحيته القصيرة، المشذبة، ذكرتني بأنه محاضر جامعي وكاتب في صحيفة يومية، لا شك بأنه يتشبه بالطيب صالح، أو بتاجر سوداني أعرفه منذ الطفولة، شيء من الصرامة الأخلاقية، تشبيك الأصابع والنبرة الخشنة المتهدجة، مع كثير من الإيمان والعبث، مزيج سوداني خالص، هل كان يقصف في الأفراح؟.
قبل أن أعود إلى ذاتي بالكامل قال:
" الأكثر إدهاشاً حين يحاول أي ليبي أن يقلد لهجات الآخرين ". ضحك بعمق ثم أضاف " عندها لن ينجح أحد بإيقافه، يتحول كل شيء إلى مأساة، خوزقة، صدقني إن الليبي لا ينفع في أية لهجة أخرى، لكنهم لا يتوقفون عن فعل هذا، مجرد أن يلتقوا بك، لكي يشرحوا لك مدى تواضعهم فإنهم يتحدثون بلهجتك، وتغدو الحياة سلسلة من اللقطات الساخرة، أرجوك من أخبرهم بهذا، إن التواضع مرتبط بلهجة الآخر ". كان ضحكه معدياً، حتى لو لم تكن كلماته مضحكة، إلا إنه يتنقل برشاقة بين اللهجتين، بسخرية هائلة " أقسم بأني رأيت أحدهم يحاول أن يقلد نيجيرياً ذات مرة أتصدق ؟ إنهم لا يتوانون عن تقليد اللهجات، طبيعي أن تجد ليبياً في المستشفيات يقلد اللهجة الهندية التي حفظ كلماتها من احدى الأفلام أمام ممرضة فلبينينية، أعتقد بأنها حاجة روحية ؟! ". عندها وجدت نفسي أقلده بلهجة سودانية، أن عليه التوقف، فكاد يسقط على ظهره من الضحك.
" أحببت ما فعلته، أنت حقاً مختلف ".
قال وهو يعيد تماسكه، فيما وضحتُ بنبرة لا ظلال فيها:
" تعرف بأنني لست مختلفاً، لا شيء مختلف في هذه البلاد ".
فقال لأول مرة بجدية :
" ليس صحيحاً، إنما يجب عليك أن ترتدي نظارات سحرية لترى الاختلاف ".
فأعلنت:
" لا أحب رؤية الاختلاف إن كان موجوداً ".
ضحك إنما لكي يكسب الوقت، قال:
" أظنك تمزح، وإلا لما كنت هنا ".
إنه محق، تطلعت إلى البحر وإلى الشمس الواهنة، التي تنحدر بهدوء، وقد غدت كتلة باردة مضيئة بروعة، حتى إنها لا تؤذي العين، بل تبدو أقرب لثمرة مانغا تطفو فوق الماء، أسفل منها كانت السفن الثلاث راسية بجمود.
" انتظرت مقابلتك منذ أول مرة قرأت تلك اليوميات الجيدة، أنت لا تعرف مدى قيمتها ".
كنت أعرف بأن اختفاء الأوراق واليوميات من غرفتي، لم يكن بسبب الحريق، لطالما أحسست بأنني في دوامة كبيرة، قلتها لعدد من أصدقائي إنما رفضوا الأمر تماماً، وإن الأحداث الغريبة التي وقعت في بلدتنا، لا تعدو كونها أمور تاريخية مكررة، إن فكرة التكرار التاريخي في بلدتنا كانت احدى النظريات التي يروج لها الجميع، حتى الأحداث تلك التي تبدو كأنها طفرة، يسعون جاهداً لإيجاد حدث مشابه، حتى بالقياس، إنهم يخشون من الأمور الجديدة، لذا ظللت أنظر إلى الجميع من في بلدتي باختلاف مللهم واثنياتهم ومستوياتهم الفكرية يسعون بجنون لاكتشاف تلك الخيوط القديمة، غالباً ما تكون مجرد أوهام، لكنها تبدو دوماً قوية، شديدة الارتباط بالواقع، هذا ما حدث معي، إن احدى أسهل التفاسير في بلدتي دائماً مرتبطة بحوادث القتل والانتحار وسفاح القربى واشتعال المنازل، مطلقاً لم أنجح في العمل على اكتشاف كيف احترقت غرفتي من دون البيت كله. سببهم واضح جداً، خلل في الأسلاك الكهربائية، التي كانت ويا للمصادفة سليمة تماماً، حسناً إنها معجزة.
" إنها معكم ".
قلتْ. ابتسم غامزا، ثم قال بلهجة سودانية:
" كان يجب أن تكون معنا، معنا وليس مع أحد سوانا ".
عندها قلت:
" حتى أنا، كاتبها ".
ابتسم قائلاً:
" حتى أنت، كاتبها ".
ثم أشار إلى بائع البذور كان يتحرك حاملاً قفته.
" ماذا تطلب؟ ".
" بذور ".
طلبها من البائع المصري، مع كيسين من الفستق وكوبين من الشاي، فاحت رائحة النعناع، مع التيار البارد، فيما أخذت الشمس بالسقوط في المياه، اشتعل الأفق بنيران المؤلمة، أسقط أولى قشور البذور في المياه المضطربة بالكاد، كان يمكن رويتها في المياه، كما يمكن رؤية سرب الأسماك الصغيرة السوداء، تسبح برشاقة، فيما كان الكورنيش يعج بالحركة، المارة المبتسمون، بائعي الفشار، ناصبي الألعاب، مؤجري الدراجات، فيما بدت الوجوه تعيد نفسها للحياة، كنت أفكر في الصور الشاملة التي تعيد ترتيب كل شيء منذ سبتمبر 1998 وحتى تلك اللحظات أغسطس 2006 عبثاً.
قال السوداني:
" إن ما قمتم به في تلك البلدة، هي احدى أكبر المنعطفات بالنسبة لكم، إنكم وضعتم لأنفسكم نظاماً جديداً للنظر إلى تاريخكم الشخصي". ألقى بالبذور، وشرب من كوبه الورقي، وفعلت مثله، متطلعاً إلى عينيه الناعستين، حين قال مضيفاً " لكننا سنتحدث عنك أنت، لقد وقعت أمور كثيرة في الأيام الماضية، لقد حدثت انهيارات عظيمة، لا شيء يمكن فهمه، أنت هنا تريد أن تبحث من جديد عن كل شيء، أنظر معي جيداً، سأكون صريحاً معك ".
عندها عرفت بأننا بدأنا !
" أخبرني عن التاريخي الشعري ".
ضحكت، ربما للمرة الأولى منذ أشهر:
" كل شيء معك ".
هز رأسه قائلاً:
" لكنني لا أعرف الكثير، إنك كتبت احدى أندر التوقعات، ولقد تم وصفها بالنبوءات الصادقة، لقد تحققتْ كلها، كما وصفتها، حسناً أمر كهذا يستحق المتابعة، أليس كذلك ؟ ".
" إنها ليست توقعات ".
" أعرف، لم تعد ".
كان ذلك قبل سنوات، حين انتسبنا لجميعة صغيرة، مهمتها كتابة تاريخ بلدة تازر، بلدتنا. كنا نعمل في مكاتب أشبه بصحيفة القرية النشيطة، يوميات جزء من تلك الأيام، كنت أعرف بأنها موجودة، ولم تحترق، حين أخبرني بركاى عن مكان يمكن فيه أن أجد أموراً تهمني، لم يخطر ببالي إلا تلك اليوميات، لذا قلت
" إنني بحاجة إليها ".
رأيت قشرة تحلق، مصابيح  تضاء من الباخرة في عرض البحر، كانت تومض، محكمة الشمال في وقفة غاضبة، وقد تقشرت واجهتها بفعل رذاذ المالح. بالرغم من الضجيج المحيط بنا، كنت اسمع فرقعات فتح البذور، تضغط على أذني، شعرت بالغضب المفاجئ، لأنني منذ ثلاثة أيام لم أنم إلا حوالي خمس ساعات، متقطعة، كنت منهكاً، تطلعت لعمق المياه محاولاً استعادة توازني، عندها سمعت:
" ما تحتاجه هو أن تنسى كل هذا ".
" لا يمكن ".
" أنت تعرف جيداً، بأننا مؤخراً ننهي كل شيء ".
" منذ عرفتكم وأنتم تنهون كل شيء ".
عندها ضحك عالياً وقال:
" أنت مرح، أليس كذلك؟ ".
ثم استعاد بعضاً من ملامحه الصارمة، وقال:
" حسناً، سنذهب لمكان قد تجد فيه بعض الأجوبة، ربما تجد بعضاً من ماضيك هناك ".
قام، بدا أنيقاً فعلاً في بدلته المخططة، كأحد رجال المافيا، طلب مني أن أتبعه. على بعد عدة خطوات كانت سيارته المرسيدس تنتظرنا، أقلتنا عبر الطريق الساحلي، كانت الطرقات بدأت تكتظ بالسيارات، فيما أخرج السوداني كتاباً صغيراً بدأ في قرأته، أسندتُ رأسي على الزجاج، فأحسست ببرودته. كان رجال الأمن العام في كل مكان، السيارات المصفحة، المشبكة النوافذ، التوتر في كل مكان، فيما أخذت المدينة تستعيد هدوئها، بعد أيام من الانفلات الأمني، راح ضحيتها العشرات. كنت في منزل أحد أقاربي حين اتصل بي بركاى.
" أريد أن أراك ".
التقيت به في غرفته: ملجأ اليتيم.
كل شيء هادئ، كتبه، دفاتره، مخططاته الدائمة، تلك الصور المغلفة في ظروف بيضاء، عليها طوابع بريدية مختلفة، تحمل ذكريات قديمة، تعبق غرفته بروائح أكثر قدماً كالمخطوطات والمجلدات التي دبغت من الجلد الطبيعي، جلسنا معاً، وضع يده على ركبتي.
قال:
" افهمني جيداً، نحن نمر بفترة حاسمة ".
التقط أنفاسه ثم أضاف:
" سأترك لك بعض العناوين، ستبدأ بالاتصال بها بعد ثلاثة أيام بضبط، أتفهمني؟ ".
" نعم ". قلت، كنت أعرف بأنه سيعتمد علي في أمر ما، أحسست بروعة ما يحدث، لكنني لم أغفل عن تلك الخطورة التي تجعل صديقي، ضائعاً في أفكاره. في نهاية ذلك اليوم، خرجت حاملاً تسعة عناوين، لتسع شخصيات مختلفة، في رأسي قصص كثيرة، سمعتها على مدار عشر ساعات من بركاى، مثقلاً، منهكاً كنتُ، متذكراً كل مرة، بأنه أخبرني:
" أعتمد عليك صديقي، لا تخذلني ".
" لن أفعل ".
كان القنصل المالطي أول اسم حاولت مراراً الاتصال به، عبثاً. حين اتصل بي، كنت فقدتُ الأمل تماماً، أجبت اتصاله، كان اسمه مدوناً عندي بالقنصل المالطي كما سجله بركاى نفسه، سألته متردداً:
"القنصل .. ".
قبل أن أكمل رد على شخص ليبي، مجيباً بقوله:
" أنا القنصل المالطي ".
بدت لي كلمة القنصل مستغربة، في نبرة صوته، إنما ضحك الرجل، كان الأكثر استغراباً:
" جيد ".
قلت متردداً، فبدأ الرجل من الجانب الآخر، يرسم موعداً للالتقاء. اتصلتُ به بعد ساعتين كما طلب حدد لي موعداً. حين رأيته على الشاطئ، بتلك اللهجة السودانية تشوش ذهني، إنما مرحه كان أمراً باعثاً على الإعجاب، كانت مهمتي معه بسيطة، سيوصلني لرجل مهم، اسمه ليس على القائمة التي لدي، إنما موجود فقط في ذهني، القائمة التي لم أكتبها، التي حفظتها طوال ساعتين أمام بركاى، قدم لي وصفاً عن الرجل، سجلته في دفتر خيالي، على جوار بعض الاعترافات التي لم أفكر مطلقاً بكتابتها على الورق، إنها في صفحة بيضاء، سجلتها كأخبار صحفية عن الأحداث العنف الجارية في الشوارع والأزقة، كانت بنغازي في تلك الفترة تعاني حمى الثورة الأولى، الطرقات مسدودة، شبان يحرقون صور العقيد الديكتاتوري، يهاجمون سيارات رجال الأمن، في حين تخاذل جميع الحرس الثوري، حماة الفكر الجماهيري في المدينة، كما بدأت القنوات العالمية تهتم فعلياً بما يحدث في بنغازي، كنت أسير ليلاً عبر الطرقات الخلفية للوصول لبعض العناوين، دون أن أجد أحداً، ففي العناوين يتوجب أن ألتقي بطبيب أطفال، رسام كوميكس عائد من سويسرا، رياضي قديم من نادي النجمة، نادلة مغربية من إقليم صفرو، كانت على علاقة مبهمة مع بركاى، كانوا كلهم مختفين تماماً عن المدينة، في احدى أكثر اللحظات غرابة.
القنصل المالطي، لم يكن يمتلك إي فهم لما يجري من حوله، مهمته منذ الستينيات كانت تكمن في إيجاد الوقت المناسب للكشف عن المكتبة للمرتادين الجدد، أمام منزل المسن أخبرني القنصل:
" إنها ليست مساءلة تحدث دائماً، المسن الذي ستلتقي به عمره أكثر من تسعين سنة، منذ تسعين سنة لم نقابل إلا سبع أشخاص جدد، عليك أن تهتم جيداً بالأمر ".
منذ اللحظة الأولى كنت مهتماً بفكرة المكتبة، حين سمعت عنها للمرة الأولى وعن ظهورها المفاجئ في الجنوب وفي بعض مناطق غير محددة في العالم، تهت كثيراً حتى وجدتُ الخيط إليها، ثم اكتشفت بأن الكثير من الأشياء غير واقعية تحدث في هالة مشوشة حول فكرة المكتبة نفسها، إن مشاعر الخوف وعدم الثقة، والإحساس الدائم بفقدان السيطرة على الذات، كما إن الوحدة هي أكثر المشاعر الشخصية رعباً كما إنها هي تحيط بالمكتبة، مسببة الانعزال للأمناء يصل لحد الجنون أو تنمية مشاعر الإرهاب في نفوسهم، فالمجلدات التي وجدتها تشرح الكثير من الحالات التي وقعت خلال ثلاثة القرون الماضية فيما يتعلق بالعناصر إرهابية التي استفادت مكتبة تمبكتو في منطقة الصحراء لإسقاط السلاطين وشيوخ القبائل، كما استخدمت في سبيل مهاجمة الجماعات التبشيرية والنصارى المتجولين في المناطق الداخلية التي ظلت لسنوات طويلة محرمة عليهم، تلك المكتبات السرية التي ساعدت في تكوين الجماعات الدينية المتقشفة، ذات التوجهات السياسية، بعض الأسماء كانت وراء هذه التحركات السرية، أسماء مثل: أحمد النائب، حسونة الدغيس، كما إن بعض السلاطين استفادوا من المشاريع المضادة لهذه التحركات، إن المكتبة في تاريخها المكتوب، التاريخ الشخصي لكل جزء منها مرتبط بشكل عميق بالمسن، الذي يقطن المكتبة، بضبط منذ سبعين سنة.
الأمين الأكثر عمراً من الديكتاتوريين، قابل عشرات الكُتاب وجهاً لوجه، قبل أن بلغ الخمسين، كان قد عبر نصف قارات العالم، سافر بالأحصنة، الإبل، القطارات البخارية، البواخر الضخمة عبر محيطات كلها.
المسن !
الغموض، العمر المديد !
الوحدة !
حين سألته عن فترة مكوثه في المكتبة، أخبرني بأنه دخلها وعمره عشرين سنة. هو الآن تجاوز التسعين. ثم نكس رأسه أكد لي بأنه تأخر كثيراً، إنما لا يشعر بالذنب، فقط يشعر بأن تأخره في دخولها، سبب له تلك الهلوسات التي عانى منها طوال عشريناته، السنوات الأولى من مكوثه، تلك الهلوسات لا شك قللت من دقة ملخصاته، وهو أمر لا يظن بأنه تجاوزه، حتى بعد هذه السنوات، لذا فإن أكثر ملخصاته التي يظن بأنها مفصلية، ما تزال في مكتبته الخاصة ولم تنشر، لم يقرأها أحد، هذا هو المبرر الوحيد لشعوره بأنه محق في قراره، على الأقل حتى يجد شخصاً يراجع كل تلك الأوراق. بالنسبة لي كشخص قارب العشر السنوات في المكتبة، نشرتُ ما يعادل سبعمائة دراسة تم اعتمادها، هو الذي قضى قرابة السبعين سنة في المكتبة لم ينشر إلا ثمانين ملخصاَ، إنه أمر يفوق التواضع والزهد. كان جالساً على كنبته المفضلة، يتطلع إلى الحديقة عبر نافذة المكتبة، أمامه على طاولته الصغيرة كتاب جوهر الأبسنية لـ: جورج برنارد شو، يعكف على مراجعته منذ أسبوع كامل.
" إنها احدى أطول الفترات، لا يمكن فهم هذا ".
قال مبتسماً وهو ينزع النظارة الطبية من على عينيه، يضعها بيدين مرتعشتين على غلاف الكتاب الايرلندي، الذي استراح بهدوء على الطاولة الصغيرة.
ثم أضاف قائلاً:
" منذ سنوات، تعلمت أن أقرأ الكتاب وأضع ملخصاً عنه في يوم واحد، كتب من أكثر من ألف صفحة، استطعت أن أنهيها بدقة كاملة، أحياناً أشعر بأن سرعة القراءة، تجعل الكلمات راسخة أكثر في المخيلة، إن البطء يقتل القراءة، البطء يقتلني ".
عندها ارتشف من كوبه قهوته، التي يضعها دائماً على الطاولة، إلى جوار كتابه الذي يقرءوه. تطلع متجاهلاً إلى الخارج محيطه المعزول، في اللحظة التي سألت فيها بشيء من التردد:
" كيف دخلت المكتبة ؟ ".
كأنه لم ينتبه لسؤالي، لم يلتفت ناحيتي إنما واصل النظر في الحديقة، كانت هناك عصافير تتقافز على الأشجار، رشاش مياه يقذف قطرات ثقيلة، لامعة تنعكس في عمقها ألوان الأزهار وأغصان الأشجار المختلفة مع خيالات لصبية بسراويل بنية قصيرة وفتيات يتقافزن بمرح بتنانير مدرسية مخططة، إنها الصورة التي اعتمدها منذ زمن ليس بقليل لتشكل عالمه التخيلي، كان قد اخبرني بأنه حين يتطلع إليها، يشعر فعلياً بأنه أمام نافذة المكتبة التي في مخيلته، وإن حياته الشخصية تساوي أكثر مما هي في الواقع، حين تطلع إلى وجهي، التقت عينانا. كانت عيناه، صافيتان، واسعتي الإدراك مليئتين بالأحلام والذكريات، حتى إنني شعرتُ بهما تفيضان بمشاعر النقاء.
حكايته عجيبة، ككل الحكايات.
قال بصوت متهدج، ليس تأثراً بماضيه كما اعتقدت، إنما لأمر أكثر غموضاً مما دار في خلدي، أكثر شجناً من الحقيقة التي اعتمدتها طوال دخولي للمكتبة حتى تلك اللحظة. كنت في السابق أعتقد بأن رواد المكتبة من أمثال المسن الشركسي، يمكن اختصار وجودهم وعلاقتهم بالمكتبة في جملة صغيرة تقول بأنهم مهووسين بها، يربطهم حب غامض بالممرات الطويلة الشبه المعتمة، بروائح المجلدات القديمة، بالأرفف الممتلئة بالكتب التراثية، تلك التي طبعت والتي لا تزال مخطوطات، تم جلبها من مختلف المكتبات ودور النشر والمقتنيات الشخصية والعهد والمراكز الدراسية كما تم شرائها بطرق غامضة من جامعي الكتب والمخطوطات، كما فهمت من فترة مكوثي في المكتبة هناك حوالي خمسين مؤسسة، مكلفة بجمع تلك المخطوطات والمجلدات النادرة من مختلف بقاع الأرض، إن المسن حين كان شاباً، عمل مرافقاً لرجل من كبار جامعي الكتب والمخطوطات، يوناني من إسكندرية، يوجد في الممر الرئيسي صورة له مع الشاعر كفافيس، كما إنه منح المكتبة زهرة حياته، بدد ثروته الضخمة لغرض شراء تلك المخطوطات، في فترة من أكثر فترات غموضاً في تاريخ المكتبة، فالسجلات لا تُظهر كمية الكتب التي تم جلبها، كما لا تشرح الأساليب والطرق التي جُلبت بها الكتب، كما لا يوجد شيء يُظهر مصادر تلك الكتب، حين يبحث المتابع في تلك السجلات، يجد إنه حوالي سبعين سنة الأخيرة من عمر المكتبة، لا وجود لها، منذ عام 1936 أي منذ ميلاد المسن المكتباتي.
" حسناً، كما يدخل الجميع، ليس هناك أمر يميزني ".
" بل يوجد ".
" ما هو ".
سأل ثم ارتشف من قهوته، ارتعاش يديه، بسبب السن، كنت أعرف، إنما ظننته ارتعاش التوتر، ربما للمرة الأولى يتحدث مع شخص عن هذا، منذ أشهر أخبرني، في أول محادثة بيننا، بأنني أول شخص يتحدث معه منذ عقود. رائحة القهوة كانت رائعة، عينيه، بشرته المتغضنة، عروقه الخضراء الناتئة من يديه المرتعشتين، شيء من الإيمان ما يزال يتميز به، وقار ساحق، إنما غير مكتمل، فقد جئت من بلدة فقدت فيها معنى كلمات مثل: الثقة، الوقار، الإيمان، كنت أشعر بتلك البهرجة الهائلة، إن البقاء في المكتبة قد يزيف الكثير من معاني الجانبية للأشياء، في احدى ملخصاتي كتبت: بأن الشر لا يمكن معرفته من بعض الكتب، حتى الكتب المقدسة لا تعطي صورة كاملة عن الشر، إنما يمكن معرفة بعض خيالات الكتب في بعض الشخصيات الشريرة الواقعية، بنفس الطريقة التي يمكن معرفة وبال الشر من الكتب المقدسة، لذا كنت أعتقد دوماً بأن الحديث عن الثقة والإيمان، مبكر جداً في أي وقت تشرع في خوض غماره، إنما الإيمان الحقيقي بأن كل تلك المسائل الغامضة حول السنوات السبعين كانت متعلقة بالمسن لم يكن من فراغ، فحتى سنواتي الشخصية، دراساتي، يومياتي، مراجعاتي طوال سنواتي في المكتبة اختفت تماماً، كنت طوال اليوم أبحث في الأرشيفات دون أن أجد شيئاً، لا شيء حقيقي يمكنني تلمسه بأصابعي. إن التاريخ يتم إخفاءه علناً، إنه غارق في غياهب الظلام. الظلمة نفسها التي كنا نعمل على قتلها قبل سنوات في تازر[2] أجدها في جميع الدفاتر والمصنفات والمراجعات، كأن هناك دوماً من يراجعها خفية عنا، شخص لا وجود له، شبح يكتب مجدداً ما نتركه وراءنا في ساعات الفجر الأولى. غموض عشته لسنوات، حتى بدأت أشعر بفقدان الذاكرة فعلاً، بدل أن تعمل اليوميات والكتابات على حفظ التاريخ، يحدث عكس ذلك، يستبد التشويش بكل شيء، لا يمكن الوثوق بما في المجلدات، لا يمكن الإيمان به، دائماً هناك تشكيك، دائماً هناك تساؤلات.
" لا يمكن مثلاً معرفة شيء عنك ".
" عني ؟ ".
" نعم، كيف وصلت للمكتبة مثلاً، من أنت؟ ".
ابتسم بهدوء ثم قال:
" كما أخبرتك، إنها حكاية قديمة، لا ميزة لها في شيء ".
" أريد سماعها ".
عندها قام بهدوء، رداءه الأبيض انساب للأسفل، ناصعاً، بلحية كثيفة مسترسلة، ذات البياض، مظهره يذكر كثيراً بجورج برنارد شو، حمل كتاب جوهر الأبسنية طبعة والتر سكوت سنة 1891 أعاده بهدوء إلى أرفف مكتبته الخاصة، يمكن رؤية كتاب الرمل، لاعب الكريكيت، مزيفو النقود، اعترافات روسو ومجلدات مدينة الرب مع مجلدات اعترافات أوغسطينوس إلى جوار رواية صغيرة بعنوان: نافذة المكتبة لكاتبة تدعى: Margaret Oliphant، والتي يعتبرها أيقونة حياته، فالنسخة التي معه، هي أول كتاب يحمله بين يديه، هكذا أخبرني في تلك اللحظة، حين أعاد جوهر الأبسنية إلى الرف الخاص بالمراجع الدائمة، جلس بهدوء، على كنبته، ثم شرع في التفكير العميق، تغضنات التي غطت جبينه، ملامحه الحادة، شيء من الحزن بدا عليه ثم تنهد عميقاً.
قال بصوت حاول جاهداً ليغدو عادياً:
" كنت في العشرين، حين قرأت كتابي الأول، ولدت في طرابلس، لكنني منذ سن العاشرة ترعرعت في بنغازي، مطلقاً لم تكن الأمور عادية، البلاد التي أذكرها كانت تموج في الشتات، كانت الحروب في كل مكان، كان من الطبيعي أن ننتقل إلى مصر، بعض ما جمعته عن نفسي، يؤكد بأن والدي، كان على علاقة مباشرة بالعائلة السنوسية، دراسته كانت في مصر بكفالتهم، كذلك ربما دراستي، أذكر بأننا زرنا السنوسي الكبير وقتها، كان شاباً، هادئاً، قبل أن يعود إلى ليبيا، يشرع والدي في العمل في الميناء السكندري مع صاحب باخرة يوناني، حين أعيد التذكر تلك الأحداث بعد هذه العقود، أجد إنني كنت مقرباً من ذلك اليوناني، كنا نعمل معاً على حمل البضائع، في رحلات لقبرص، الكريت، إلى مرسيليا وإلى بيروت ".
هكذا تحدث المسن المكتباتي، كانت المكتبة هادئة كالعادة، بعض الصرير الناتج عن الأرفف المثقلة يبدو كأنه قادم بشكل شخصي، حين أجلس على مكتبتي، مستمعاً لتلك الأصوات، أتخيل بأن الكتب تتحرك ليلاً، أو إنها تضج بالقصص التي تحتويها، المكتبة ليلاً عالم مختلف جداً، منذ ست سنوات أعبر هذه الأرفف، في هذا القسم من المكتبة أعرف كل ركن، كل رف، كل مجلد، مع ذلك أجدني دائم الدهشة من الأطوار الغريبة التي تنتهجها الكتب، لطالما كنت أشعر بهذا، حتى رأيت ذات ليلة المسن يقرأ مجلداً، بدا لي ضخماً، مع الأيام عرفت بأنه جزء من دفاتره السرية، كل من يرتاد المكتبة يمتلك مثل هذه الدفاتر، كنت أعرف مدى سطوتها، طوال تلك الأيام، في غرفتي فكرت في كيفية الحصول عليها، ثمة أشياء كثيرة غامضة، يتوجب علي اكتشافها، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة ما يخفيها المسن المكتباتي، لأنني منذ اللحظة الأولى عرفت بأن وجودي هنا، ليس إلا نوع من المراقبة، وإلا ما كان يتوجب علي أن أكون في هكذا قسم خاص بالأرشيفات، المكتبة التي سعيت إليها، كانت تبدو لي أكثر فاعلية من التي أنا فيها، مجرد كتابة ملخصات يومية عن الكتب، والاستمرار في كتابة الملخصات ليس بالأمر المبهج، ما كنت لأستمر على هذا النحو، كل ليلة أسعى للعودة إلى الواقع أكثر، يجب معرفة ما يحدث حقيقة، بدل التوقعات الدائمة أو الكتابة عن مشاعر أناس لا نراهم، كنت أرغب في أمر أكثر ارتباطاً بالحياة البشرية، في ليبيا.
ذات مرة كنا نصنع أمراً يعادل قيمة ما أفكر فيه، المسن قضى سنوات طويلة في المكتبة، أن تكون هذه حياته اليومية، أمر مشكوك فيه، لذا، عملت على مراقبته كل لحظة، دون علمه، في المكتبة ممرات سرية بين الأرفف، إن تصميم نفسه يساعد على التنقل بين الممرات والأقسام والغرف بأسلوب بسيط، بتحريك الرف ثم إعادته بعد المرور، بهذا تستطيع أن تنتقل بسرعة ما بين الأقسام وان تختفي سريعاً بين الملايين من الكتب والأرفف، هذا ما فعلته طوال السنوات، كان المسن خلاله، لا يحيد عن عمله اليومي، يستيقظ، يصلي في إحدى الأركان أمام مذبحه السري، يشعل الشموع، يتأمل نفسه، يستحم، يجلس أمام لوحته الكبرى، الأطفال يتقافزون بمرح، قطرات المياه الثقيلة المشتعلة بالألوان، والعصافير المزقزقة بأجنحتها الملونة، يقرأ بهدوء طوال ساعات، غالباً ما كان ينهي كتاب كل يوم، أما في السنة الأخيرة، أخذت وتيرة قراءته تتراجع ببطء، ففي المرة الأخيرة استغرق أسبوعاً حتى انتهى من كتابه المفضل: جوهر الأبسنية، الذي كان يحفظه عن ظهر قلب، بحيث كانت قراءته لا تستغرق أكثر من ساعة واحدة، لم أكن أهتم للأمر في البداية إنما حين لاحظت بأنه لا يفارق الكتاب، عرفت مقدار ما يعانيه من ألم، طوال الفترة الأخيرة لم يكن يقرأ إلا جوهر الأبسنية حتى إنه سألني في احدى الجلسات إن كانت المكتبة تعني شيئاً مع التقدم في العمر، ضحك وقتها ثم أضاف بأن المكتبة تمتلك طبائع غريبة فهي أحياناً، تنزعج، مؤخراً بدأ يشعر بأنه مرفوض من قبلها، وإنه يفقد ذاكرته بسرعة في حين تناقصت سرعة قراءته بحيث لم يعد قادراً على فتح أي كتاب، حين أخبرني ذلك كنت وضعتُ ملخصاً شخصياً عنه، شرحتُ مدى الانتكاسة التي يعيشها، ثم عرفت ضرورة كتابة تاريخه الشخصي، على غرار ما تعلمت القيام به طوال سنوات من عام 1998 وحتى سنة 2003 في تازر البلدة الجنوبية. حين سألته عن ماضيه، بدا لي مستعداً لكي يتحدث أخيراً، بعد سنوات من العمل معاً. لكنه أخبرني بأنه المكتبة بالنسبة له كمسن كيان مرفوض، لم يكن متأكداً من طبيعة الرفض، كما إنه كان يعتقد في أغلب الأحوال بأنه يعاني الرغبة في تقليص حجمها، في الملخص الذي كتبته كنت أشرتُ إلى إن التقليص المكتبة أمر شرع فيه فعلاً منذ بدأ ينتقي الكتب التي يرى بأنها جديرة بالبقاء في مكتبته، تلك الأرفف التي لا تساوي جزء من عشر حجم الفعلي للمكتبة، دليل حقيقي على صدق كلامه، سرني إني كتبت هذا في ملخصي قبل أن يشير إليه شخصياً في حديثه، أعادني الأمر لسنوات إلى الوراء، كنت أرى في عينيه بعض من حياته، عيشه وحيداً، غضبه المكبوت بالرغم السنوات، إن ذكريات طفولته تطغى على تفكيره، يحاول جاهداً تذكر كل تلك الأيام البعيدة، بكل تفاصيلها، طوال الليالي الأرق كان يجلس إلى طاولته، ليكتب مذكراته، إنه أمر نموذجي جداً، في احدى المرات قرأت في أوراقه الملقاة في السجلات المسودات عن تاريخه الشخصي، كان قد اكتشف بأنه شركسي كما إنه قال ذات مرة:
" أقطن مكتبة لا يعرف عنها أحد شيئاً، حتى أنا نفسي لم أكن اعرف الكثير عنها، كنت تائهاً بين مراجعات صغيرة ومقالات مليئة بالأخطاء والأوهام. كنت مثل الجميع، أعيش بكل صخب، أتطلع بعمق إلى أشياء غير عميقة، حين أتطلع الآن إلى الماضي، أظن بأن كل شيء، كل حدث مهما كان صغيراً هو بمثابة ضرورة في بناء ما أنا عليه الآن، أمين مكتبة سرية ".
كتب تلك الفقرة سنة 1975، حين بلغ التاسعة والثلاثين، حين وجدتُ تلك القصة عرفت بأنني أمام شخص كان يود العودة إلى أصله، إن بلوغ الأربعين ربما يفعل هذا بالرجل، أن يشعر بالقرب انتهاء توقيته الشبابي، اقترابه من الموت والفناء. " ربما بدأ البحث عن ذاته في ذات الفترة ". هكذا كتبت في مراجعتي الأولى عنه " إنما ماذا الذي دفعه لهذا، ثم كيف توصل إلى إنه شركسي، فقد بدا لي الأمر كأنه اكتشاف متأخر ". كنت بحاجة ماسة لقراءة كامل ما كتبه، في حديثنا في ذلك اليوم قال المسن بهدوء بشكل هذياني إنما عميق، شرح بداية كل شيء:
" أحاول أن افهم الزمن بتلك البساطة التي فهمها الناس زمن القديس أوريليوس أوغسطينوس Aurelius Augustinus أن أبعد تلك الأوهام المتعلقة بالتعقيدات اليوم الواحد، إن هناك أمراً بسيطاً فهمته، هناك ماضي، حاضر ثم هناك مستقبل، ما يهمني في حالتي هو الماضي، أن أعرف نفسي بطريقة فعلية، أن أنظر إلى الحقيقة كما يتوجب علي النظر إليها، إن الزمن يلغي هذا، حين أقرأ ما تكتبه فرجينا وولف، أو حين أحاول أن أتخيل تلك الكتابات التي تجعل من الزمن شخصية في النصوص، بحيث يكون بوسعك رؤية الأمر على نحو مختلف دائماً، كل هذا متعلق بالذاكرة، بالحشد الهائل للأحداث والأزمان في زمن قصير واحد قد يصل ليوم فقط، إنه أمر مرهق، ما كنت لأنجو منه، ما كنت لأخرج منه بشكل طبيعي، فور أن بلغت الخمسين، بدأت أرى تلك الأحلام، أعني الكوابيس، إنها ذات الهلوسات التي وجدتُ نفسي في دوامتها خلال فترة عزلتي الأولى في المكتبة، عندها أحسست بضرورة أن أعرف نفسي بشكل أفضل، وقتها كانت بيروت تموج في الحروب، وقد عرفت بأنني معني بالأمر، بيروت كانت آخر منطقة وصلت فيها قبل سبعين سنة، كنت أعبر الكورنيش، حين رأيت مكتبة، أتصدق هكذا، كشكاً مليئاً بالكتب، وقفت أمامه، كان هناك شاب يدخن بدا لي غريباً في شكله وحديثه وملابسه، تطلعت إلى العناوين، كنت قبلها أشعر بالحزن الشديد، كنت على مشارف ميلادي العشرين، من هناك دخلت المكتبة ".
كان ذلك ما فكرتُ فيه، كنت بدأت أعي ما يحدث بشكل ضبابي، إننا لا نعيش في مكتبة فقط، إنما داخل عالم موازي، تطلعتُ إلى المسن وهو يفكر بهدوء، إنه هدوء متكرر، نفس الأحاسيس والظروف. قبل سنوات كنت أعبر احدى شوارع بنغازي حين رأيت الأضواء عند الكورنيش، كانت الطرقات خالية، أمواج البحر تهدر على دفعات، فيما أخذت الرياح تنساب باردة. كنت يائساً بشكل كبير، كما إنني كنت فقدتُ صديقاً قبلها بأيام دون أن أتوصل إليه، كنت حزيناً بشكل كامل، مع استماعي للمسن كنت أشعر بأن الدماء في عروقي ترتج بعنف، بضغط هائل في صدغي، لا يمكن أن يكون الأمر مصادفة، كل شيء كان متعلقاً بالدخول إلى المكتبة، إنها البداية والنهاية معاً. في تلك الليلة رأيت أمامي كشكاً عند الكورنيش، مضاءاً مليئاً بالكتب، وقفت أمامه، كانت النجوم تلمع على سطح المياه، تتقاذف مع الأمواج لتتكسر على الصخور المعتمة، وأضواء المدينة تنعكس بألوانها المتماوجة على ذات الأمواج فيما استمرت الرياح بالانسياب هادئة، باردة في أنسام لذيذة، مبهجة كلمسات سحرية من روح المدينة، كنت خرجت من مكتبتي الخاصة الصغيرة، على بعد شارعين في سوق الحوت، متأكداً بأنني عبرت الكورنيش قبل ساعة واحدة لتناول عشائي، في نفس المنطقة التي كنت أقف فيها متطلعاً لانعكاس أضواء المدينة على الأمواج، مطلقاً لم يكن الكشك موجوداً بهذا الزخم الفريد، كانت الكتب بأغلفتها المبهجة تبدو على الأرفف المنتصبة أمام الكشك، رائحتها الثقيلة التي تغلب رائحة البحر، كان الأمر كالحلم، هادئاً، سلساً، تقدمتُ بهدوء، فرأيت تلك المجلدات القديمة التي لطالما حلمتُ بها، لمستها بأصابعي، كنت أستمع لهدير الأمواج، لصخبها المتعدد، المتلاطم، فيما بدأت أقرأ العناوين التي على الأغلفة، المصنفة بنظام غريب علي، لم أكن أعرفه أو صادفته حتى تلك الليلة: عندها وقف أمامي شاب غريب الهيئة، كان يدخن، بمعطف جلدي، تتدلى من كتفيه ومن وسطه فيما تتربع جمجمة على كلا من كتفيه كأوسمة عسكرية، كما إن شعر رأسه كان مدبباً على هيئة إبر غليظة، أخبرني وهو ينفث دخان تبغه في سماء المدينة بأنه أمين المكتبة، وإنها انتظرني طويلاً.
قال المسن، مستدركاً في حالته الهذيانية، شارحاً ما بحث عن تفسيره طويلاً:
" لا بد بأن الأمر كله متعلق بالمكتبة، النسيان الاختياري أمر ممكن، تدمير الذاكرة ليس بالأمر الصعب كما يبدو للوهلة الأولى، يكفي أن يقف الإنسان في المنطقة الفاصلة بين اليقين والخيال، أن يفقد القدرة على التفريق بين الحلم والواقع، أن تحدث الأشياء في حياته بشكل جزئي، بحيث لا يستطيع أن يؤكد حدوثها من عدم حدوثها، أن تمتلئ حياته بالتناقضات، مع تكرار الأحداث المتناقضة، الصور الذهنية، الأفكار، حتى تُجهد ذاكرته. هنا يبدأ النسيان عمله. هذا أمر يمكن حدوثه حتى للجماعات، للشعوب. فيما تبدو هذه خسارة كبيرة للبعض فإنها قد تصبح جائزة ثمينة للبعض الآخر، خصوصاً لو كان الإنسان قارئاً، فإن كان هدف الشائع القراءة هو: إيجاد الذات في أغلب الأوقات والحالات، أو البحث عن الماضي، التاريخ، وهو ما يعني إعادة بناء ذاكرة القارئ لأن اعتماد القارئ على ذاكرته أمر بالغ الوضوح، من دون تلك الذاكرة، فإن مهمة القراءة تصبح كالوعاء المثقوب، وهذه خصوصية لنوعية شائعة من القراء، الذين يعملون على البحث عن معلومات تمثل رصيداً في حياتهم الفكرية، الخطابية أو الكُتاب، إنما هناك نوع آخر من القراء، تمثل القراءة في حياتهم، أمراً أكثر غموضاً، مهمتها الأولى، ليس بناء ذاكرة، بل بناء الشخصية بالكامل، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق بوجود الذاكرة القديمة، إن الكتب لا تستطيع تحطيم الذاكرة القديمة، بل تعزز من قوتها، كل كلمة، تعتبر شرارة تضيء عشرات الذكريات. إنها مهمة الكلمات في أكثر حالاتها قوة. إعادة تهيئة الشخصية البشرية، من حال إلى حال مغاير. أمر عشته على نحو عاصف، إن تغير الشخصية أمر مرتبط تماماً، بفقدان الذاكرة، كما يتحول من مجرد حديث عادي، إلى صراع كامل الأركان مع خيالات القديمة، الأصدقاء، العائلة، الكتب، صفحة صفحة، حتى تلك اللحظة التي تنجح فيها بقراءة كتابك المفضل منذ عشرين سنة، كأنك تقرأه للمرة الأولى، كل كلمة متحررة من تاريخك الشخصي، من العلق التي التصق بها مع السنين، جميع لحظات الحزن، الخيبة والجنون، جميع تلك الكومة من السنين التي ترى بأنها تحمل الشخصية القارئ الباحث عن الذاكرة لأجل حشدها كرصيد معرفي، كم تبدو هذه رغبة مريضة، كم يبدو هذا تكبراً مقيتاً، مباهاة فارغة، تليق بأناس استعراضيين فارغي العقول والقلوب، لا تمت للقراء الحقيقيين بصلة، القراء المصابين بالشك الدائم في تلك المعرفة، بالتدقيق الشخصي، النظر لمدى ما تفعله الكلمات في حيواتهم الشخصية، إذ كيف تفهم الشيخ البحر دون أن تعرف معنى كلمات مثل الهزيمة، التدمير، سوء الحظ في حياتك الشخصية؟ كيف يمكن أن تفهم كتاباً لـ: ألبرتو مانغويل عن المكتبات دون أن تتورط في دورة المكتبات بشخصك ولحمك ودمك؟ إنها كلمات ولدتْ في حالات محددة، تبحث عن قراء محددين، كنت أعد نفسي كي أكون أحد هؤلاء، أن تغدو حياتي سلسلة من القراءات، أن أغدو قادراً على استخلاص، كل لحظة منها من خلال أسطر الكتب، أتعرف ؟ ".
عندها اشتعلت تلك الابتسامة، الهادئة المشوبة بنظرة مصممة، تطلع إلى النافذة الخيالية، إلى القطرات الثقيلة اللامعة بألوان الطبيعة وضحكات الأطفال العابرة في الخيال ثم أضاف بحنين:
" كنت أرغب فعلاً في هذا ".
" متعة النسيان ".
هكذا قلت في كلمتين، لم أعرف سبب اهتمامي بهما، إنما كنت أعرف بأنني لم أكن أسأل، كنت قرأتُ عنهما في احدى الملخصات التي أنجزها، والمؤرخة بتاريخ يرجع لمنتصف السبعينات القرن الماضي. كانت من جملة مذكرات، كتبت لغرض مقاومة النسيان، وهي بلا شك الفترة الأولى من شعوره بفقدان القليل مما يمتلكه من ماضيه، في نفس الفترة كتب مجموعة أخرى من الدراسات التي يمكن وصفها بمقالات لم تنشر وضعها في قسم الأرشيف الشخصي ضمن الكتابات الأولى التي تؤرخ حياة المدن الليبية وتلك التي يعتقد بأنها متآخية مع المدن الليبية، كانت كتابات بعنوان: مكة والمدن الأخرى. في هذه الدراسة عوامل بدايات تاريخ المنطقة، لأجل كتابتها أعتمد المئات من الوثائق المترجمة، الروايات الشفوية التي تم جمعها بطرق مختلفة، المخطوطات التي سطرها قضاة تلك المدن، قوائم المبيعات اليومية الخاصة بالتجار المتجولين والدراسات التي تهتم ببدايات ظهور الحركة السنوسية ودولة محمد علي باشا، ربط كتاباته بشكل شخصي بتاريخ عائلته التي قطعت مسافات كبيرة حتى وصلت إلى حيث هو، إن العودة بالنسبة إليه كانت أمراً ضرورياً لمعرفة صداقاته كذلك في معرفة عداواته. إن بحثه عن معاني الكلمات عن قوتها وسطوتها تبرر الاتجاه الذي اتخذه لنفسه.
" تبدو مهمة شاقة ".
قلت وقتها، لأوقف الصمت الذي سيطر فجأة، ابتسم بعدها مؤكداً:
" نعم، إنها الأكثر مشقة. حين تفقد كل شيء عدا الكتب، أن تغدو ذاكرتك محط العناوين فقط، أن تصبح طبيعياً تماماً في اتجاهك كقارئ، إنها نهاية الدورة، تماماً كدورة الأمهات، أتعرف؟ فمثلاً تعرف فتاة تدعى حسنية، تتصرف تاماً كأنها حسنية، ثم تمر الأيام، تتزوج، تنجب، ثم فجأة تتحول من حسنية إلى أم، إنها لم تعد حسنية، بل أصبحتْ أماً، تنسى نفسها السابقة، كل ما هنالك إنها تغيرت تماماً، لا أحد يذكر كونها كانت فتاة مليئة بالأحلام، مختلفة كلية، أين تذهب شخصية الأمهات الأولى؟ لطالما فكرت في هذا، لطالما شعرتُ بأن القارئ يمر بمرحلة مشابهة، الاستمرار بالقراءة حتى تغدو الطبيعة المتحكمة في الشخصية، عندها لن أعود ما كنته سابقاً، هنا قوة الكتب، إنها قادرة على أن تعزلنا تماماً عن محيطنا المعتاد، أن تتركنا في زاوية جديدة أو في عالم مختلف تماماً، ليس لأنها تفعل ذلك، بل لأن شخصيتنا الجديدة تفعل ذلك، كل ما هنالك إن الكتب، كشفت لنا قدراتنا على احتمال أنفسنا، على اختفاء الوحدة من حياتنا، إننا لن نفتقد شيئاً بعد الآن، لن يعذبنا أي طموح شخصي، لن يقتل الحسد براءتنا لقاء أي شيء مهما بلغت قيمته، بالمكتبة ننسى كل تلك الصغائر، لن يعذبنا الفقدان أي لحظة أخرى ".
لا يمكن فهم تلك اللحظات، فالكلمات التي تخرج من أفواهنا، مرتبطة بشدة بواقعنا، بتلك اللحظات التي خرجتْ خلالها تلك الكلمات، لا يمكن فهمها من دون تفهم للواقع.
كان المسن هادئاً، مستسلماً.
قال:
" حين كنت طفلاً، كنت أؤمن بكل الأشياء. حين صرت مراهقاً، آمنتُ بأن الحقيقة في كل شيء مهما كان صغيراً، ثم حين أدركتُ بأنني كنت طفلاً ومراهقاً ذات مرة، أدركتُ أيضاً بأنني كبرتُ بما فيه الكفاية، بدأت أتعلم التشكيك في كل شيء، كل شيء حولي لا قيمة له، العالم كذبة نختلقها على نحو ما لكي نستمر ".
يمكن أن يكون الأمر كذلك.
ربما لا يمكن !
كانت هذه إحدى أغرب جلساتنا، كان منشرحاً، راغباً في الحديث والإفصاح عن أفكار مختلفة، دائماً تبدو متناقضة. في السابق كان يجلس على مقربة مني، يشرع في قراءة كتاب ما، كنت أظن بأنه يراقب عملي وأدائي فيما هو يدعي القراءة، بعد بدأت أستخدم مراجع لم يكن يُسمح لي باستخدامها بعد في تلك الفترة. لكنني عرفت تدريجياً، بأنه بدأ يحتاج للرفقة، لكي يشعر بشخص حي بالقرب منه، لم أعرف سبب اختياره لي، كنت قد  أنهيت ملخصاً طويلاً عن قضية قديمة، لا أحد في الجوار، فقط كتب، أرفف، الكثير من الخيال، إنما مع كثير من الشكوك كانت تراودني، ما أبحث عنه منذ سنوات أمر شخصي. انتهت أحداثه منذ قرابة العقدين، إنما لا يزال الغموض يحيط بكل حدث فيه، بحيث كنت أرغب فعلاً في كشف خيوطه. حين رأيت المسن يقترب مني، ظننت بأن السبب هو اكتشافه لحقيقة الأوراق التي أعمل عليها، لذا حين استدعاني وقتها لغرفته الشخصية، كنت مستعداً لتلقي الكثير من المعلومات عن ما أبحث عنه، وان أفاتحه عن كل تلك السنوات التي مضت، وإن كنت أعتقد بأنه يعرف الكثير عنها، فالدراسات التي كنت أكتبها، كانت تراجع دائماً، وكما فهمت هو الأمين الأول على القسم الذي تخصصت فيه، ظل أميناً على القسم طوال سبعين سنة الماضية، إنها السنوات التي لم أنجح في الكشف عنها ضمن السجلات المكتبة، طوال هذه السنوات، كان هو من يتلقى الوثائق والأعمال المكتوبة من كل المناطق، لا شك بأنه هو من يمتلك ما أبحث عنه. في غرفته الشخصية، كان جالساً على كنبته، حين طرقت الباب، وفتحته، كان يهم بالقيام، خففت من خطواتي حتى أسمح له بالوقوف كما يشاء، حين مد قامته، عرفت لأول مرة بأنه طويل جداً، وإن عينيه زرقاوين، فيما بدت بشرته البيضاء أكثر شحوباً، بلحيته المسترسلة الناصعة، صافحني بيده الثقيلة الخشنة، ثم طلب مني الجلوس.
" أتشرب القهوة؟ ".
" لا أمانع ".
عندها سكب في فنجان مزخرف بالقرب منه، مستخدماً إبريق الحفظ. رائحة القهوة كانت زكية. وضع الفنجان على طاولتي ثم سكب لنفسه، كانت رائحة القهوة رائعة، كذلك صوت انسكابها المترقرق في الفنجان، الذي رن حين رفعه، سمعت صوت الخزف المزخرف يرن، ارتشف بأناقة، فيما أخذت يديه ترتعشان بشكل ملحوظ، وضع فنجانه ثم سألني:
" أنت تكتب كثيراً ".
هززتُ رأسي موافقاً، حين أضاف قائلاً:
" قرأت معظم ملخصاتك، إنها جيدة، إنما أنت ترهق نفسك ".
قلت بشكل رسمي:
" إنه عملي ".
ابتسم ثم قال:
" صحيح، عملك، إنما أنت مطالب بدراسة واحدة كل أسبوع ".
" نعم ".
رفع فنجانه بهدوء ثم قال:
" لكنك أنجزتْ أربع دراسات الأسبوع الماضي، وأنت بصدد دراساتك الثالثة لهذا الأسبوع ".
تطلع إلي بعينيه المتسعتين:
" صحيح ". قلت ثم أضفت " أجيد عملي هذا، وأنا متفرغ ".
" واضح إنك تجيده، دراساتك جيدة، أسلوبك مختلف تماماً، إنما كوني مسؤولاً عن هذا القسم أرى إنك تجهد نفسك أكثر مما يجب، وهذا الأمر ليس صحياً ".
عندها أحسست بأنه يريد الحديث فقط، إنما كنت أشعر بالخطر على نحو ما، فأمامه على الطاولة مجموعة أوراق كنت أنجزتها قبل قرابة السنة، عرفتها جيداً.
" ما أود قوله، هو إنك تبحث عن مشاريع غير التي أسندتْ إليك ".
" سيدي ".
" أنت تكتب دراسات عن زمن غير الذي أسند إليك ".
عندها حاولت أن أتكلم إنما قاطعني:
" أنت تعرف بأن الكتابة عن تلك الأزمان، البحث عن الأحداث من تلك الأزمان، هو أمر تم إلغاءه سيد شكري ".
" نعم أعرف ".
" إنما أنت تعمل على البحث عنها مع ذلك ".
لم يكن أمامي إلا أن أتطلع في عينيه، أن أتطلع بشكل أعمق ثم أقول:
" أنا من ذلك الزمن ".
" كلنا من ذلك الزمن، حتى هذه المكتبة، هذا القسم الذي تعمل فيه، كل شيء من ذلك الزمن، إنما القوانين تحتم هذا ".
عندها تسرعت بشكل عصبي ثم قلت:
" لكن هذا مناقض لمفهوم المكتبة ".
" ماذا؟ ".
سألني وهو يضع فنجانه على طاولته، لم أكن قد لمستُ فنجاني، رائحة القهوة كانت رائعة، كما إنني بدأت أعيد تذكر صوت رقرقتها، ثم تذكرتُ لمعان اللون الغامق في الضوء.
" مناقض ؟ ".
" إننا نعمل على كتابة ذاكرة المكان والزمن، كوننا نلغي ما كتبناه، أمر مناقض لطبيعة عملنا ".
هكذا قلت.
لا بد بأنني كنت غاضباً، لا بد بأن صوتي خرق الهدوء في المكتبة، إنما لاحظت جيداً بأن الارتعاش في يدي المسن قد اختفى تماماً، فنجان قهوته الذي رفعه لم يعد يصدر صوت الاحتكاك.
ابتسم لأول مرة، قال:
" قهوتك بردت ".
قام بهدوء، تقدم مني. أخذ فنجاني وضعه على طاولة أخرى، ثم أخرج فنجاناً آخر، سكب لي قهوة ساخنة، رأيت تلاشي بخارها متراقصاً أمام مجلدات الكتب على رف خلفه، وضعه في يدي، ثم عاد ليجلس على كنبته، حين ارتشفتُ من فنجاني.
قال:
" سنة 1955 وصلت مرفأ بيروت على متن باخرة من إسكندرية، كانت أول رحلة لي على متن باخرة مضت بنا




[1] اسم تباوي يعني بالعربية: سعيد.
[2] سنة 1998 تم تأسيس جمعية سرية هدفها كتابة تاريخ الحاضر للبلدة، في دفاتر تعتمد أساليب اليوميات والتحقيقات الصحفية والاستقصاء، توقف العمل على الجمعية سنة 2003 بعد أن حقق نتائج مبهرة، وانتهت بحادثة مأسوية، جريمة قتل غامضة عقب كشف عن سلسلة من الجرائم السرية وإعدامات ميدانية، وجد نصوص مشفرة تشرح وقائعها، تلك النصوص اختفت فور ظهورها، سيأتي ذكرها في هذا الكتاب.
Powered By Blogger