July 25, 2013

النمو الهاديء - مطالعة في زاوية شبه معتمة.




سيرة ذاتية

النمو الهاديء– 
مطالعة في زاوية شبه معتمة.
لـ
شكري الميدي أجي.







سيرة ذاتية

النمو الهاديء– 
مطالعة في زاوية شبه معتمة.
لـ
شكري الميدي أجي.

مهداة إلى أرواح الأدباء –

الصادق النيهوم.
نعمات البحيري.
أمل دنقل.
محمد الشلطامي.
خليفة الفاخري.
جنينة السوكني.
غازي عبد الرحمن القصيبي.

إقرأ، إقرأ حتى تسقط، فإن سقطت قم وإقرأ مرة أخرى.

القراءة لم تكن بالنسبة لي بحثاً عن المعرفة، على الأقل كما أتذكر في اللحظات صفاء الذهني، بل هي أمر أكثر طبيعية من ذلك، كأن يتعود المرء على ذاته.

1

كنت في التاسعة حين سرقت ثمرة المانغا، صفراء ولامعة دفعتني لأن أقترف الذنب المريع، لأول مرة خرج والدي عن طوره وبدا نظام البيت في إرتباك واضح، حبسني على إثرها في أكثر الغرف كآبة وتكدساً بالأغراض بعد المخزن.

كنا نخشى تلك الغرفة لأننا نعرف جيداً بأن شيطاناً يسكنها. أختي الكبرى، كانت آنذاك في العاشرة شرحت لنا ما رأته ذات الليلة من أفعال الشبح الذي تحرك في الظلال، بدا الأمر مرعباً. والدي حبسني هناك بالذات وفي عينيه شرر الغضب بسببي. بقيت في الظلمة داخل زاوية رطبة، أشتم الرائحة الثقيلة للغبار، أرى خيالات الصناديق كأنها تتجه ناحيتي، أسمع صوتاً في داخلي يهزني بعنف، قلبي طفر أكثر من مرة، رحت بعدها أتذكر أموراً لا علاقة لها بالظلمة، تذكرتُ، نيلز الصغير، رعد العملاق، كما تذكرتُ عودة سنبل الطائر صاحب المظلة الملونة، محاولات يائسة لأبعاد التفكير حول الشبح. لا زلت أعيش تلك الذكرى بقوة، جلوسي بهدوء في الزاوية وعدم حركتي، تفكيري في الأمور المبهجة كلمعان الأضواء كلما مرت سيارة في الخارج، نافذة الغرفة تطل على السور الخارجي للبيت، بالرغم من أنها مغلقة لكن الضوء تسلل عبرها بروية بالغة بعد لحظات، عرفت بأن أحد أخوتي أضاء مصابيح الساحة الخارجية. الضوء أعاد ترتيب كل شيء، بدت الصناديق جامدة مكدسة بالكتب، ربما كان ذلك عام 1993 حين بدأتُ بطريقة ما البحث في الكتب كنوع من طرد التفكير في الشياطين، سرعان ما عثرت على مجلد مزخرف لقصص جحا صاحب الأحذية الغريبة، قبعته بدت كصحن مقلوب. بألوان باهرة ومشتعلة كالورود التي نعبث بها صباحاً في حديقتنا الصغيرة، وضعت الكتاب على حجري وبدأت أقلب الصفحات، لم يكن كالكتب المدرسية أو أي كتاب قراءته، الرسومات والصورة تحتل مساحات كبيرة، الكلمات معززة بالشخصيات فكاهية، منها صورة لجحا يقطع جذعاً في أعلى الشجرة، يجلس هو على حافة الجذع تاركاً الشجرة أمام وجهه، بحيث تظهر الصور كأن جحا سيقط مع الجذع فور انتهائه من القطع. لكنه لم يقع مطلقاً، ظل معلقاً هناك طوال السنوات اللاحقة. الصورة لم تفقد روعتها أبداً، بقيت محتفظة بفكاهتها بالرغم الكارثة المنتظرة.

تماما كما تعلقت بتلك الغرفة. بقيت هناك تلك الليلة حتى الواحدة، حين فتح والدي الباب وجدني منكباً على قراءة ذلك الكتاب. كل شيء فيه كان يبدو مختلفاً، براقاً ونظيفاً بشكل يبعث على السرور. لم يتكلم والدي بل ترك الباب مفتوحاً وغادر، دون أن يدري بأنه بحبسي تلك الليلة أدخلني لعالم واسع بلا حدود، عالم اسمه المكتبة، ربما كان يدري.

2

حين أحاول تذكر كتبي الأولى، تقفز في ذهني مجموعة مجلدات " تاريخنا " لصادق النيهوم وعشرات المجلات التي بذات العنوان – تاريخنا. كلها تتحدث عن القرن السابع وحتى عهود متأخرة من التاريخ الإسلامي. مجلدات النيهوم، كانت أشبه بعالم موازي للكون، رأيت فيها قراقوش وسمعت معاوية بن ابي سفيان يحادث جارية كما رأيت القتالات الشرسة التي كانت تقع في الأغوستيوم الروماني على مدى 114 يوماً، العربات والسيوف القصيرة وحروب الوندال في أوروبا، كما إني رأيتُ حن بعل يفتت الجبل بمزج النبيذ وألسنة النار ناقلاً الأفيال إلى قلب أوروبا، ليغزو روما لمدة تزيد عن عشر سنوات أمام دهشة الأوروبيين من تلك المخلوقات، عرفت بأنهم نفس الأوروبيين الذين أدهشوا الهنود الحمر بنقل الأحصنة إلى أمريكتين، حتى دهش هنود أمريكا ظنوا بإن الحصان والفارس مخلوق واحد رهيب من عوالم الشر والغضب، كانت حرب نفسية أيضاً. المضحك أن الفكرة كانت موجودة ضمن الكتب في عوالم الأساطير والأدب. لاحقاً سيقوم الهنود الحمر بإدهاش العالم كله بفكرة تمزج الواقع بالسحري. بأمانة بالغة لرؤيتهم للتاريخ. ما يحدث في العالم غالباً ما يكون قد حدث فعلاً في عالم الأدب والفن كالنبوءة الصادقة.

ظلت الصور واللوحات التوضيحية مع رسومات عصور النهضة في إيطاليا، عماد الكتب التي كنت أجدها في بدايات تعرفي بالكتب. مكتبة والدي تحوي ما يقارب ستمائة كتاب غدوا أغلبهم رفقاء لعب وأصدقاء حميمون بالنسبة لي، بعد عدة سنوات نقلت تلك المكتبة إلى النور في المربوعة –

((هامش عن المربوعة - هو المكان المخصص كمجالس للرجال في البيوت الليبية. ربما جاء من التربيع كما أحب أن أعتقد على سبيل الدعابة، فالجلوس تربيعاً بأكثر الوجوه تكشيراً وحكمة تعتبر من أقصى الجلسات الأخلاقية وقد تستمر طويلاً، أثناء عقود الصلح ومناسبات الزواج والمأتم وأية مناسبة يجتمع لأجلها الرجال كأن على رؤوسهم الطير. يا سادة إنها جلسة ماراثونية جديرة بإدراجها في الألعاب الأولمبية)).

ضمن مكتبة رصينة يحدقون في أعين الرجال كأنداد لهم. أنداد أكثر حكمة ومعرفة. أحياناً حتى وأنا في مراحل متقدمة من العمر أحب أن ألهو معهم على نحو آخر غير القراءة، على نحو أكثر طفولية. أنزلهم جميعاً على الأرضية، بعد أن أقفل الباب ورائي، أشرع في تصنيفهم بشكل دقيق، حسب الحجم، والتجليد، إلى قبائل وأعراق، أختص الكتب التي اقتنيهم بمالي، حوالي 76 كتاب بأحجام مختلفة إلى جانبي كحرس ثوري، أفرغ المكتبة من محتواها الطبيعي، ليتحول كل شيء إلى أمر مختلف كلياً عما هو عليه، أصبح أنا حن بعل ويغدو كل كتاب من المجموعة متمثلاً في اسم معين من أسماء شخصيات أعرفها. أعيد تمثيل كل ما عشته ذات مرة في طفولتي. ابن خلدون يقف في مواجهة مجلدات للغزالي عن إحياء علوم الدين، طوق الحمامة يهدل بجوار مروج الذهب، كما أن رواية السفينة لجبرا ابراهيم جبرا تلاقي تحية طيبة وبعد للنيهوم، بجانب كتاب البئر لإبراهيم الكوني، والصوت الهاديء في رواية ميرا مار لنجيب محفوظ، على مبعدة قليلة متاهة من القصص والحكايات في ألف ليلة وليلة في طبعة بيروتية أنيقة تتوقف في جزئها الأول عند معضلة شركان بعد أن تزوج من أخته، في فاجعة لم يكن يدري بها، ابتدأت من معضلة شهريار الذي وجد زوجته تخونه مع أحد الخدم والعبيد، فقرر أن يترك البلاد التي يحكمها مع أخيه الذي عانى من نفس المعضلات في مملكته المجاورة، في طريقهما أثناء الهجرة الأرستقراطية عن مملكتيهما وجدا بحيرة عندها مارد نائم، بجانبه حسناء فائقة الجمال، نادتهما وبدأت تحادثهما برقة فنانة لبنانية، وأناقة عارضة باريسية، حين علمت بما يشتكيان منه حكت لهما، بأن المارد النائم يخشى عليها من نسمة الهواء، وإنه يحبسها في صندوق خوفاً عليها من تلك النسمة الرجولية، لكنها لا بد وغمزتهم حين قالت بغنج –

" نحن النساء نفعل ما يحلو لنا ".

تلك كانت بداية النكبة التي أشعلها شهريار في مملكته، إذ قرر أن يتزوج كل مرة بفتاة بكر وبعد أن يقضي ليلة معها، يأمر بقتلها في الصباح، عند صياح الديكة. كانت هذه أفضل الطرق لمنع النساء لفعل ما يحلو لهن في نظر شهريار ألف ليلة وليلة. حتى إلتقى بشهرزاد التي قضى معها الليل في أمور جانبية أخرى غير اللعب ألا وهي الحكايات، بجوارهما فتاة صغيرة تدعى دنيا زاد. ما حدث هو أن شهريار حين انتهت شهرزاد من حكاياتها اكتشف أنه قضى معها ما يساوي ثلاث سنوات كاملة ولابد بأن ابنه أخذ يجري حولهما بابتهاج شديد، دون أن يدرك شهريار ما جرى.

قلت لأحد الأصدقاء ذات مرة –

" ربما لو منعت المرأة عن التحدث بلسانها وفكرها، استعاضت عنهما بالحديث بجسدها مع كل من يرغب بالحديث معها ".


3

غالباً الكتب المهمة في حياتي ارتبطت بمشاكل أخلاقية أمر بها. هذا الأمر جعلني أعيد التفكير في كل ما مررت من معضلات. إذ بدأت أكتشف، وهذا ربما يكون أمراً خاصاً جداً ولا علاقة للآخرين به، بأن الكتب مهما كانت مواضيعها فإنها تكون عين ساهرة ذات عناية خاصة تجاه القراء، فمثلاً إنني لم أشفى من معضلة ثمرة المانغا إلا بعد أن وجدت ملخصاً لكتاب الإعترافات لأوغسطين، خلال حديثه عن سرقة ثمرة كمثرى على ما أعتقد. حين دخلت في قصة عشق مبكرة وفاشلة ومليئة بالأحزان وجدت أمامي كتاب عن عشق سورين كيركجارد مؤسس الوجودية، لريجين أولسن.

أغلب أحداث حياتي ارتبطت بشكل ما بعناوين التي أقتنيها، لذا حين أقتني كتاب لا علاقة له بشيء في حياتي، أدرك بأنه كتاب مستقبلي بالنسبة لي، الأمر يأخذ منحى مختلفاً في أحيانا كثيرة إذ تصبح حياتي هي الدافع الأساسي للبحث عن الكتب، كما حدث حين وجدتني في عزلة قاتلة دفعتني لوضع كتاب مئة عام من العزلة في قمة الكتب التي أبحث عنها، وقتها كنت غارقاً في بلدة صحراوية لا تحوي سوى قرطاسية بائسة تعرض عناوين عن وصفات الأكل ذات الطبعات الرديئة، وقصص القبر وحكايات الذين ارتقوا في العبادات قبل ألف سنة، كنت أعيش عزلة فريدة، بالرغم من إني أشارك في المجتمع بشكل طبيعي وبعناد بالغ، مغالباً ذلك الإحساس بالبقاء في زاوية مع كتاب ما. سنوات حياتي من الثانية عشرة حتى الثامنة عشرة اتصفت بشيء من الإزدواجية، هناك شخص إحتفالي وسطحي في داخل بجوار شخص عميق محب للعتمة، والعيش الهاديء في مكتبة لا نهائية. لاحقاً وجدت أشخاص كثر مثلي إبراهيم الكوني وخورخي لويس وبورخيس، كلاهما يحتويان أشخاص احتفاليين بالرغم من العزلة، كما إني بدأت أقترب من الكتاب الذي غدا هدف سنواتي الأولى، مئة عام من العزلة.

كأن القراءة هي كبح لجماح شخص إنفلاتي في الداخل، كأنها ختم سحري لحماية العالم من أشخاص كانوا ليغدوا سفاحين وقتلة وأصحاب مجازر جماعية لو لم يجدوا طرقهم المختلفة للكتاب والقراءة.

اختصرت أفكاري كلها في كيفية الوصول لكتاب غارسيا ماركيز. اتصلت بأناس سافروا لمصر، اقتنوا الكتاب ولم يحضروه لي، ولم أكن لأطلب من شخص الكتاب مرتين، ربما بسبب فكرة الليلة الأولى والتي هي من حق المقتني الأول للكتاب، كما تحدثت مع أشخاص يذهبون للمدن البعيدة، أبلغت أصحاب المكتبات المنزلية عن حاجتي الماسة لهذا الكتاب، لسبب ما كان الجميع يتجاهل الأمر، فكرت بأني لو صرخت بسبب الجوع، لكان هناك المئات من الأشخاص يقدمون لي ما لذ وطاب من أصناف الطعام. ما لم يعرفوه ولن يعرفوه هو إنني كنت أعاني الجوع فعلاً، جوعاً فكرياً رهيباً، أحسست بانه يستحوذ علي بشكل كبير، بدأت اعيد قراءة الكتب التي قراءتها في مكتبة أبي، كنت اعيد قراءة مختلف العناوين عدة مرات، أذكر بأني كنت اردد لنفسي باني طالعت تحية طبية وبعد أكثر من ألف مرة بثلاثة أضعاف، كان الأمر يتركني في ألفة غريبة مع الكتب، مع إنني كنت شرساً معها، ربما سادي بشكل يبعث على القلق، فالكتب التي أحبها أطالعها حتى تتفتت أوراقها، وتتمزق، قراءتي للكتب لا تزال شرسة وعنيفة، فأصابعي تحوي شهوانية بالغة مع الكلمات، أحاول على الدوام أن أكون جنتلماناً مع الكتب، لكنني لا أستطيع أن أفعل ذلك، قلبي عنيف في ضخ الدماء، حكيت هذا لصديق مثقف فغمزني قائلا –

" أرجو أن تكون هكذا مع الكتب فقط ".

فإتهمته بالوقاحة.

خلال تلك الفترة بالذات بعد ملاحظة صديقي، تعرفت على الماركيز دو ساد.

((هامش عن الماركيز دو ساد - فرنسي دعى إلى أسقاط الأخلاقيات إبان فترة الثورة الفرنسية، كان صاحب صوت عالي في نبذ الأخلاق، تورط في عدة قضايا تعذيب العاهرات والإستمتاع بآلامهن، ألف روايته مائة وعشرون يوماً في سادوم أثناء وجوده في سجن باستيل، على ورق صغير للغاية، بعد اقتحام السجن تم نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية فيما وجد مخطوطه طريقه إلى ألمانيا حيث اشتهر هناك، من اسمه اشتق مصطلح السادية والتي تعني التلذذ بعذابات الآخرين، كأن الأمر مرتبط بالثورات والغضب، فالإجتاح الهائل للأفكار المختلفة في مجتمعاتنا بعد الثورات ما بعد 2011 يُظهر جلياً أن السادية جزء منه هو الإختلاف الفكري، حين تنتصر تمحو عدوك أو خصمك ولو كان من العائلة نفسها، مشاكل صاحبت العديد من الأشخاص، حتى إنهم يفرحون لمصائب أخوتهم فقط ليظهروا كونهم على حق. فالتشفي كلمة شعبية مرادفة لبعض خصائص السادية)).

ما أعرفه هو إن خفوت قوة شراستي تعني خفوت عشقي للكتب. أمر لم يحدث حتى الآن، ولا أتمنى أن يحدث مطلقاً. ففي حينا ثمة شائعة تروج عن عشاق الكتب، هناك مس من الجنون يصيبهم، يكرهون البشر بسبب الكتب، يقضون ساعات في ضحكات منفردة، مطالعة بلا نهاية، يتركهم الأمر ليصبحوا كائنات غير مفهومة، كنت أرى البعض في الحي، أسخر منهم بشخصيتي الإحتفالية، أحدهم يقرأ بثلاث لغات أمام دكانه البسيط، تدور حوله أساطير غريبة دفعه عشقه للكتب لأن يرحل إلى لبنان.

((هامش - ما يجمع بين ليبيا ولبنان في التاريخ أمور حميمية للغاية، فالفينقيون والبحر المتوسط هما هبة ليبيا كما أن إنتقال الملكة أليسار بعائلتها وحاشيتها لتأسيس المملكة الأولى في ليبيا، لها سحر عريق دفع لصنع بعض الأساطير المتوهجة بين البلدين، كأن هناك علاقة حب سرية بينهما، منها سيرة الأمير شكيب أرسلان، عن السنوسيين وليبيا، للأسف هذه العلاقة مثل أغلب العلاقات الليبية تأثرت بأفعال الفكر السياسي الليبي المتخبط في الفترة الآخيرة، ما نجح الأدب والثقافة في إرسائه استطاعت السياسة الهوجاء تدميرها خلال عقود، آخر جيل ليبي حن للعشق اللبناني كان جيل السبعينات، الذين اسسوا الثقافة الليبية الحديثة برموزها العظيمة وأنوارها التي أشعلوها بمصابيح النيون على طول الطريق إلى الفكر العربي، أسماء مثل الصادق النيهوم وسالم الهنداوي وخليفة الفاخري وفتحي العريبي وكثيرون غيرهم كانوا على صلة وثيقة بأحداث الثقافية في لبنان، جزء من عزلة ليبيا كانت بسبب سوء علاقتها بهذا البلد الصغير المعطاء، الذي يجمع متناقضات الليبية، بجعل رجل كول أوغلي كالنيهوم يعشق بلد قومي عربي كشكيب أرسلان، الذي يضعه بعض الأمازيع بمثابة مخلخل النسيج الإجتماعي الليبي بفكرة لا علاقة لليبيا بها كالقومية العربية، الغريب أن الذي سبب القطيعة بين ليبيا ولبنان هو واحد من أشد القوميين حماساً للوحدة العربية بحيث أضطهد الأمازيع والأعراق الآخرى الغير العربية بشكل تام، نصرة للقومية العربية. كما أن أكثر الأشخاص قرباً من المكونات الغير العربية هو أحمد الشريف صديق الذي أبهر الأمير شكيب أرسلان والذي بفضله وصلت أفكار الرجل إلى ليبيا، وعبر أحمد الشريف بسببها إلى خارج ليبيا، هل يمكن ربط توقف الجهاد بمواقف الفكرية بسبب تأثير القوميين في تلك الفترة؟ على كل حال القومية العربية أكثر ما فعلته هو إضعاف أهم ما كان يربط الجميع بالمنطقة، السلام وحب الجار والتعاطف، في سبيل خلق قوة عسكرية وهمية لمواجهة عدو وهمي وقتها، التاريخ سيبين مدى سخف ما حدث فعلاً )).

منبع الكتاب العربي في السبعينات القرن الماضي، هناك تورط في الحرب الأهلية، يتناقلون على لسانه، وأنا لم اره ولو لمرة يتحدث، كان مستعماً من الطراز فريد، لكن هذه الحكاية لا بد حكاها في لحظة ضعف، أنه وقع في أسر بعض المليشيات اللبنانية، مع مجموعة من سبعة أشخاص، حيث أقتيدوا إلى حجرة في مبنى مجهول وتم رميهم بالرصاص الحي عشوائياً، قتل البقية، خرج هو سليماً فيما يشابه الأساطير. كنت أراه أثناء جوالاتي عبر الأحياء، يقرأ كتب الجيب باللغة الإنجليزية، مستغرقاً بشكل فريد في محله البسيط المتوضع. لاحقاً وبعد سنوات رأيت نفس الهيئة لقاريء من أكثر قراء بنغازي ثقافة، بلعيد الساحلي، في كشكه الصغير عند مدخل منطقة الفندق البلدي، يأتي إليه كبار كُتاب المدينة والبلاد ليعرضوا عليه كتاباتهم، كنت أبحث عن مكتبة في أول يوم لي في بنغازي حين رأيت كشكه الصغير. اقتربت منه، لكنني صافحتُ الكتب ولم ألقي عليه التحية، وجدتُ أمامي كتاب– كلمات الحق القوية لصادق النيهوم.

قبلها بسنوات كتبت قائمة للكتب المطلوبة. حوالي ثلاثمائة كتاب وعلى رأس القائمة مئة عام من العزلة. بطريقة ما كنت أقترب ببطء شديد لموضوع من أكثر المواضيع غرابة في حياتي الطفولية، الإرتباط العميق بالكتب لحد التماهي.

قراءتي الثانية للنيهوم كانت بداية طريقي نحو العزلة، وعلى شارع عمر المختار وفي مكتبة 5 تمور التي سميت الان بـمكتبة 17 فبراير وجدتً كتيباً صغيراً لحوار النيهوم يشاركه ابراهيم الكوني وعبد الرحمن شلقم ورضوان وكاتبة أخرى، قال ابراهيم الكوني في المداخلة الصريحة وأعتقد بأنها الوحيدة بأن–  

" الإنسان معزول بطبيعته ".

كانت بداية فترة العزلة بالنسبة لي. عرفت عندها بأني قريب جداً من كتاب غابرييل غارسيا ماركيز.

4

الطيب صالح في لقاء تلفزيوني على قناة MBC سنة 1994 شرح بأنه أمر واحد على مدى تاريخ الكتابة. قال أحيانا يدعونه بالإغتراب، وأحيانا يدعونه بالهوية، والآن يدعونه بالعزلة، ضحك بإقتضاب وأضاف فيما هو يحرك أصابعه المشتبكة في حماس وحكمة – أن الأمر هو هكذا.

أكتب هذا مستعيناً باليوتيوب، أعيد متابعة لقاءات الكُتاب، أقرأ الحوارات والنبذ التاريخية عن ذواتهم، أخجل أن أكتب شيء أحسه وكان قد كتب ما يشابهه أحد الكبار أمثال بورخيس وإبراهيم الكوني، لكنني أنحني لأكتب بالرغم من ذلك، فلقد حلمت ذات مرة بأني مسجون في غرفة مظلمة، وإن هناك من يطاردني، كان يتوجب علي الهرب، لكنني كنت أغازل شيئاً ما في داخلي بحيث لا أبتعد عن الموقف مطلقاً، بل أمكث في الظلام ولا ألوي على شيء. كما رأيت نفسي على أعتاب مكتبة هائلة للكتب المجانية، مكتبة لا تظهر إلا لأشخاص بعينهم، لأنه حتى القراء يبحثون عن أشياء تجعلهم متفردين عن القراء الآخرين، تنافس شديد للإختلاف عن القراء الآخرين، الأمر ممتع ومذهل لحد الثمالة.

اختلافي هو أن حياتي هي كتبي. حين أقول هذا أتمثل أمراً أشبه بمعزوفة من القرن الثامن عشر في بلاط ملكي. فجابر عصفور مثلاً أراد أن يطالع أكبر مجلد في المكتبة ليتميز عن القراء الآخرين، في نظر أمين المكتبة، بورخيس أراد كتاباً بلا نهاية وقد فقد بصره بسبب القراءة، البعض يصل به الحد لسرقة الكتب بسبب من عشقهم لتميز حتى أمام ذواتهم، ليقول بفخر – من بوسعه أن يفعل ما فعلت. التمايز صفة تلازم القراء، وقد لازمتني طويلاً، كنت مستعداً لفعل أي شيء لكي أجد الكتاب الذي في بالي.

بعض الكتب أعادتني لرشدي في لحظات حاسمة من حياتي. سنة 2008 حدث قتال أهلي في بلدتنا. وقعت أحداث موت مؤسفة، واصابات كثيرة وأعتقل المئات وزجوا في السجون وقد خلف الأمر ندوباً مريعة في صدورنا، بدت لنا الحياة كأنها توقفت، وضعنا أحكاماً مسبقة زادت مع الأيام لتصبح نوعاً من عدم تقبل الآخر، الآخر الذي غدا في نظرناً مجرد مغتصب حيواني لا أكثر، لم تعد تربطنا به اية وشائج، عندها بدأت اكتب بشكل متعصب، أبتر علاقاتي بالآخرين، وأحدد مدى تواصلي بالناس بمدى تقبلهم لأصولي وتوجهاتي. في تلك الفترة وجدت مجموعة من الكتب على رأسها مذكرات مالكولم إكس كان على نهج الغضب والتعصب ثم سكن مباشرة بعد أن قرأ تلك المجموعة الهائلة من الكتب، عرف نفسه ورأى موطيء قدمه بحيث لم يعد كارهاً، بعد سنوات من النضال قال بأنه ندم جداً لأنه طرد فتاة بيضاء أبدت تعاطفها مع قضيته. كانت لحظات مزلزلة بالنسبة لي، رجل كهذا بهذا النضال يصارع نفسه ندماً بسبب كلمة إنطلقت منه في لحظات غضب، كلمة ربما لم تؤدي لمقتل احد، بالرغم من ذلك تؤرق عيشه حتى بعد سنوات طويلة، جعلني الأمر أفكر بهدوء أكبر. كذلك كتابات كازانتزاكي من ضمنها مذكراته – تقرير إلى غريكو الحديث عن الأصول والأسلاف المرتبط بشدة بالأحداث الخسارات والمكتسبات، شخص سبعيني يتذكر مدى تأثير ما تلقاه أسلافه من معاناة في نظرته للحياة. كنت أراقب الكلمات تتموج أمامي وفي لحظة مجهولة سألت نفسي–

" لو بلغتُ السبعين كيف سأكتب عن ماضي الخاص بي، كيف سأنظر لتأثير ما يحدث الآن في المستقبل؟ ".

كان سؤالاً عرضياً أثناء قراءتي لرغبة كازانتزاكي في إبادة قرية هادئة، هل في داخلي شيء مرعب كهذا؟ هل يمكن أن أكره أشخاصاً لدرجة أن أتمنى لهم الموت بفظاعة؟ كيف سيكون تأثير ذلك على رؤيتي للعالم على كتاباتي؟ كيف سأحتمل قراءة دوستويفسكي، كازانتزاكي، طوق الحمامة، يوسف إدريس وأنا مقترف لذنب الكراهية، ربما التحريض على القتل جراء كتاباتي القصيرة المتحمسة؟ كنت أعاني إنقساماً حاداً بين ما أريد وما ينبغي. عندها عرفت بأني في صراع هائل في داخلي، الإحتفالي المدمر والمعتم الهاديء ذو الحكمة. في النهاية حسمت كتابات بعض الكبار من القرن التاسع عشر تلك المعركة حكماء من أمثال – فريدريك نيتشه، مكسيم غوركي. في تلك الفترة اصبت بمرض جلدي جراء معضلاتي النفسية، تورم جسدي بشكل يبعث على التقزز، الصديد يمليء كل إنش مني، دمامل ومعاناة الآلام المبرحة، لم أكن قادراً على التحرك دون ألم، أقرأ عبر نظام pdf

((هامش قرأت بهذا النظام الإلكتروني مئات الكتب التي كان من الصعب إيجادها في ليبيا. بالرغم من أن قراءتها من اللاب توب كانت صعبة بعض الشيء إلا أن الأى باد حل المشكلة بشكل كامل، صرت اقرأ الكتب النادرة في المكتبات بنغازي، على حافلات الربع وفي حدائق وأمام الكورنيش وأثناء أوقات العمل وحتى أثناء الآكل. لم يعد السوق هو من يتحكم، بل القاريء، أقرأ الكتب دون الشعور بالسطوة الإعلامية، بضع صفحات يكتشف المر الكتاب الجيد، وحين يشتري النسخة الورقة لا يشعر بأي ندم، لا استيطع وصف الأمر، لكنه أشبه بالتعارف قبل إعتماد الصداقة، البي دي أف هو الإنطباع الأول والكتاب الورقي هو الصديق)).

مجلدات دوستويفسكي، بدأت بالجريمة والعقاب وانتهيت بالأخوة كارمازوف، بعد أن عبرت على الأبله والمقامر والزوج الأبدي وبقية كتاباته، خلال أشهر كان المرض حافزاً على قراءة المزيد، متمددا على الفراش في غرفة، مبتعداً عن الناس بشدة، ودماملي تنزف مادة صفراء فتحت مجلد الرقمي لكتبي وبدأت قراءة رواية – الطاعون لأبير كامو، فساءت حالتي أكثر لكنني استمتعت بسادية محزنة، بإصابتي بالهلع الشديد حين علمت بأن مرض الطاعون انتشر بالفعل على الحدود الليبية المصرية داخل الأراضي الليبية سنة 2009. عرفت عندها بأن رواية الطاعون خاتمة حياتي.

ندمت لأني أقدمتُ على كراهية الآخرين، ندمت لأني لم أكن من ضمن أؤلئك الذي يتحدثون عن السلام أوقات الحرب، شعرت بالأسف لأنني سمحت لنفسي لأن أخوض غمار الشيطان. كما ندمت بشكل يبعث على السخرية الآن لأني لم أقرأ كفايتي من الكتب، لم أكتب كفايتي من الكلمات، استسلامي لفكرة الموت، كان بسبب الألم ومعاناة اللا قدرة على فعل شيء وليس لأني أرغب فيه، ففي النهاية انتصارنا أمام الموت هو بتلك الإسم وراءنا، جدي الذي قضى قبل مئة سنة ما يزال حياً في اسمي، كذلك هوميروس لا يزال حياً في التاريخ بملحمته العظيمة، كنت قدرت قبل سنوات كيفية انتصاري على الموت والفناء، حين مرضت في تلك السنة، شعرت بأن جميع مشاريعي انتهت، جميع خططي لكتابة أمر عظيم تلاشت، تذكرت غادة السمان وهي تتحدث عن كون أدباء العربية دائمي تأجيل لمواضيع كتاباتهم، أغلبهم يُقضون قبل أن يكتبوا فصلاً من تلك الكتابات العظيمة المزمعة، خشيت من قلبي أن أكون من هؤلاء، أن أموت وفي نفسي رغبة بكتابة شيء.

الأمر ببساطة مضيعة للوقت، بلا كتابة، لن أكون قادراً على الوقوف أمام الرب لإريه تركتي من الكلمات – أن أمد مداد أورقي لإريه بأني لم أضيع حياتي سداً، بل كل ما تعلمته وهضمته خرج بأفضل الطرق، ربي، أنظر هذه كلماتي، لم يضع شيء هباء. الخوف من الضياع جعلني استسلم بهدوء. عدم الكتابة جعلني أتألم، إن كانت القراءة هي لمعرفة الأخرين، فالكتابة هي لمعرفة الذات، إنها قراءة آخرى معكوسة إلى الداخل.

كدت أسقط!!

لكنني بقيت معلقاً كجحا على الجذع الذي أواصل قطعه. ربما كنت مثل كازانتزاكي، روحي فزعت من كمية الغضب والكراهية التي وصلتها، فلم يعد جسدي قادراً على كبح فزعها. حين أقول هذا أضحك وحيداً وأنا أحاور كازانتزاكي –

" روحك فزعت من عشق يهودية فينا، أم روحي فقد فزعت من كراهية أبناء وطني، أليس هذا التناقض ما بين ضفتي المتوسط، تشابهاً أيها رئيس؟ أنت تعشق البحر الليبي وهواء أفريقيا وتحب أن تضم بين جوانحك روحاً مسلمة تتجه نحو الشرق كل صباح وأنا أعشق جليد همنغواى فوق الأرضي الأوروبية، تماثيل مايكل أنجلو، متحف هنري ماتيس كما أحب التموج الذهبي والصفاء الغريب لدى الأوروبيات، أليس تناقضاً متعاكساً صديقي ولكن كيف يتحول العشق الدافق إلى كراهية؟ ".

كنا نمتلك أموراً نعشقها معاً كالأسلاف وعرائش العنب، الهواء النقي والوحدة، الأوروبيات وهوميروس، نكبح معاً ذلك الوحش بداخلنا. ونختلف في أمر واحد، ربما بسبب القتال الشرس بين الأتراك واليونان، لم يستطع كازانتزاكي انتزاع حذره من التاريخ التركي – العثماني، الأتراك لم يستطيعوا أن يجعلوا تاريخهم جزء من تاريخ اليونان، الثقافة اليونانية كانت صلبة أكثر من الثقافة التركية، اتمنى أن يحدث هذا مع ثقافاتنا التي تبدي تبعية غريبة للثقافة التركية التي غدت مهانة جداً في السنوات الأخيرة بسبب مساءلة الإتحاد الأوروبي، هذا الأمر تحدث عنه أورهان باموق في لقاء صحفي، عن كون الرجل الأوروبي لم يستطع أن يهين الرجل التركي بقدر ما أهان الآخرين. رؤية آراء باموق جعلتني أفكر بهدوء حول هذه المعضلة التاريخية –

طوال القرون التي قامت خلالها الأمبراطوية العثمانية بقهر الإمبراطوريات الآخرى وحتى استطاعت تلك الإمبراطوريات قهرها في النهاية، لم يستطع الأتراك وضع قدم في صحاري جنوب ليبيا، إلا متأخراً بسبب من قائد طموح من أسلافي، كان على علاقة وثيقة بالحركة السنوسية، الوثيقة الصلة بدورها مع الباب العالي في الآستانة، ربما كان ذلك خلال سبعينات القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين. الزعيم شهاي

(( هامش - أول من وضع شرائع التبو الحديثة في نصوص واضحة، تتناقلتها الأجيال اللاحقة بأمانة لحد التشدد، هو من مواليد 1872 إرتبط بعلاقات وثيقة مع قادة الجهاد الديني وقتها – الحركة السنوسية- التي وجدت فيه نصيراً بعد عدد من الزعماء السابقين، يعتبر هو من وعقد السلام مع الطوارق والتي إمتدت من سنة 1911 حتى هذه اللحظة ويمكن اعتبارها احدى أقدم عقود السلام التي وقعت في التاريخ البشرية، حارب الفرنسيس، وقع معهم عقوداً كما إرتبط بالإمبراطورية العثمانية، إذ خصصت له حامية مؤلفة من سبعين تركي مسلحين فوق جبال تبستي، كقاريء عادي للتاريخ أرى بأن شهاى شارك في صنع مجد سياسي لشعوب التيدا، كتب عنه الرحالة غوستاف ناتخيغال بإسهاب، ووضع مترجمي كتابات ناتخيغال للإنجليزية دراسات أكثر إفاضة عن الدولة التي كان شهاى والسنوسيون يسعون لإنشائها، قبل أن يحدث الشقاق بين أجنحة الكتائب التابعة للسنوسيين غثر الهزائم التي لحقت بأحمد الشريف وتركه لقيادة الجيش السنوسي الذي غرق في رغبات القبائل ائنذاك، حتى كادت أن تقسم البلاد بين الشرق والغرب )).

مع الزعيم الأعمى الذي لا أذكر اسمه كانا أول من وقعا تلك العقود مع القوات الدينية لوضع قاعدة عسكرية هناك، وبناء زوايا دينية، بالرغم من أن المؤرخين المتحمسين للسنوسية يكتبون بأن الحركة السنوسة هي التي قامت بهداية تلك الشعوب للدين الإسلامي إلا إن التاريخ والواقع يفندان هذا، فالسنوسيون هم من وجدوا الفائدة الحقيقية بإنضمامهم لتلك الشعوب فصارت لهم شوكة، سياسية قوية لم يستطيعوا أن يجدوها في منطقة أخرى، وقبلهم كانت تلك شعوب قد دخلت الإسلام بقرون طويلة، لا أعرف كيف لمؤرخ أن يكتب عن قائد اسمه أحمد بكونه وثنياً؟ كأن تمبكتو كانت تنشر الوثنة طوال القرون، كأن قادة تلك المناطق لم يحجوا لمرة طوال هذه القرون. التاريخ المزيف يغزو هذه الكتب، لكن الأمر اشبه بالبشر الكتاب السيء لا يسيء للكتب الآخرى، بل يظهر للناس أن الكتب مهما حدث ورائها أناس يسوقون لمعلومات تصنع مجدهم، المرء لا يملك إلا أن يتساءل – هل الأمر سوء نية أم فقط، قصر في النظر؟ ربما تحمست هنا قليلاً فقراءاتي لباموق كانت مرتبطة بشدة برؤيتي لتاريخي الشخصي.

في النهاية حتى نحن في الصحراء حاربنا العثمانيين، كما حاربنا الفرنسيس والطليان، الإستعمار كالإرهاب لا دين له، وتركيا لم تعتذر من احتلالنا قط، بل هم يريدون أن يصبحوا أبطالنا، أليست هذه وقاحة يا رئيس؟ أعني إنني لست من ذاك زمن لكنهم يريدونني أن أمتن لهم لأجل ذلك الزمن، مع إننا حاربناهم سابقاً، ولن نسكت على سياساتهم الغبية الآن، تركيا العجوز تستعمل المساحيق للإغراء، دون أن تعرف بان سحر تركيا الفتاة قد تلاشى تماماً.

في تلك الفترة من سنة 2006 حين وجدتُ رواية " اسمي أحمر " كنت قد وجدت معها حصاناً أبيضاً يتركه أحدهم موثوقاً عند الميناء. أنحدر إليه من مسافة تقارب عشرين كيلو متراً لأحادثه بهدوء بحثاً عن أمور مشتركة بينه وبيني مع الميناء المتوقف، كان الحصان عجوزاً ومرهقاً على الدوام وقد سحرني بشدة بالغة، داومت على زيارته يومياً طوال سنتين كاملتين حتى اختفى ذات مرة، دون أن أنعرف من يحضره ومن ينقله. أبطال باموق كان يرسمون حصاناً من الذاكرة. أوائل عام 2012 قررتُ أن أكتب عن ذلك الحصان من الذاكرة. عشت فصولاً رائعة لأني كنت بدأت أرسم بكلماتي بداية من الخطم. بالمناسبة أعلن بأني أنجزتُ روايتي الأولى بكل أمانة بعنوان –

" موت غير طبيعي ".

في آخر فقرات الراوية وجدتني أتحدث عن أتاتورك

((هامش عن مصطفى كمال أتاتورك بالنسبة لي يعتبر كشخص أقرب للشخصية الليبية من رجب طيب أردوغان الذي أعتبره الصورة المشوهة والساخرة من أتاتورك الذي قاوم القوى العظمى في مشروعها تجاه ليبيا، جهاده مسطر وصوره بالزي الليبي وصرامة نظراته كذئب جامح منشورة على صفحات الإنترنت، فقد كان قائداً زمن حرب الليبيين الأولى ضد القوات الإيطالية، وتعززت علاقتي التاريخية بالرجل إثر سقوط العقيد الليبي ومحاولات بعض المليشيات الهجوم على الأهالي من التبو بأعتى السلحة من تراسانة العقيد، وقتها كان احد قادة التبو يدرس تاريخ أتاتورك كما أخبرني أحد الأصدقاء، كتاب لم يفارقه طوال فترة مكوثه في العلاج بعد اصابته أثناء الحروب الأهلية كقائد ميداني. أردوغان لا علاقة له بالتاريخ الشعب الليبي إلا كونه مستشمراً توطدت علاقته بالدكتاتوريين في رغبة منه لتحول لنوع حقيقي من ديكتاتوريي العصر الحديث على غرار القذافي ومبارك وسلفه الرهيب سليمان القانوني. تأكدت أرائي في الفترة الأخيرة بالطريقة التي واجه فيها أردوغان المظاهرات ضد حكمه، تزييف الحقائق والمعلومات التاريخية التي تجاهلت الآراء المتصاعدة في الشارع، وأخبر الأتراك أنه زاد من مستوى حياتهم المعيشية، ومنحهم أموراً لم يحلموا بها، ذكرني بمقولة القذافي بأن الليبييون قبله كانوا بلا كهرباء ولا ماء وإن حياتهم كانت هراء، كأن الأرزاق بأيدي الطغاة، أردوغان كطاغية )).

وأردوغان، عن الجهاد ضد الطليان من سنة 1911 وعن إجتهادات أردوغان فيما يخص الشعوب والنفط والإستثمارات التركية التي تقدر بمئة مليار دولار في ليبيا.

5

في مكتبتي أنا ديكتاتور. الكتب تطيعني بأمانة بالغة. أصنفها بحسب ما أشاء. أطلق عليها اسماء اخرى غير عناوينها فنحن في جمهورية بلا اسم، لأن الأسماء لا تعني الكثير، ربما هي كتب فقط، مثلما يكون المواطن رفيقاً فقط في أية جمهورية شيوعية، الأسماء أمر مربك على الدوام، فأديسيوس البطل في ملحمة هوميروس كان جانبياً قبل أن يتحول لبطل ذو اسم يصارع ألهة البحر والزمن في شعر هوميروس.

الكتب تحمل اسماء قد تبدو غريبة بعض الشيء كطوق الحمامة، الاسم ليس مرتبطاً بشدة بما في النص ليس كرواية الحمامة لزوسكيند، كما أن ألف ليلة وليلة لا تحوي في الواقع كل تلك الحكايات، والعسكري الأسود في رواية يوسف إدريس قد غدا رمزاً اكثر منه اسماً حقيقياً لشخص ما.

كان ذلك البعد الأسطوري للأسماء الصفة المميزة لرواية – مئة عام من العزلة، كما إنها الصفة الملازمة لأغلب أدباء أمريكا اللاتينية. فالأسماء الثلاثية كالتعويذات المدهشة لأدباء تلك القارة التي تنتهي إليها الأمور على الدوام لتبدأ عندها، لم تشذ عن القاعدة في خصوص الرواية العالمية، فمن أسبانيا انطلقت رواية دون كيشيوت لتحط في أمريكا اللاتينية مع ألف ليلة وليلة ورباعيات الخيام، شكيسبير، جورج برنارد شو وكافكا مزيج هائل من عصارة الأدب العالمي صب في تلك القارة، كان الناتج مذهلا وساحراً، اسماء رنانة كديكتاتوري العصر الحديث، نصوص مشبعة بالأمنيات التاريخية والمستقبلية في الواقعية السحرية التي أبدعوها. فغابرييل غارسيا ماركيز باسمه الذهبي ذو الرنة المسكرة، جعل روايته الكبرى تعج بالسماء التي بدت للجميع كأنها متاهة مرهقة، متشابهة لحد الجنون، وماريو فارغاس يوسا في شيطانات الطفلة الخبيثة عانى من الإسم أيضاً، جعل بطلته الصغيرة تغيير من اسمها في كل فصل من فصول الراوية، حتى إنها تتحد مع أبطال الروايات، يقول البطل –

" كنت أعيد قراءة التربية العاطفية لفلوبيير لأنه مدام أرنو في الرواية لم تعد لها في نظري، اسم الطفلة الخبيثة فقط، وإنما وجهها أيضاً ".

كارلوس فونتيس كتب قصة جنين بلا اسم ولا وجه إلا بإفتراضات كل شيء عنه، كذلك الإسم الأكثر حميمية في عالم الكتب- خورخي لويس بورخيس لديه عادة غريبة في اختيار اسماء أبطاله، فإلى جانب الصفات فإنه يجمع بين اسماء الكبار من بقاع مختلفة حول العالم كما حدث مع مترجم الإنكليزي – الذي نسيت اسمه لتزداد الأمور تعقيداً – والذي قام بترجمة رباعيات عمر الخيام. ورجل الأركادي بلا اسم يبيع كتاباً بلا اسم إلا بكونه كتاب الرمل لأنه بلا نهاية ولا بداية كالرمل نفسه وهذا الأمر موجود في قصص نجيب محفوظ عن اللابداية واللانهاية حين يربطها بشكل أنيق بفقدان الذاكرة والزمن وحتى المكان. بطريقة ما كان أدباء أمريكا اللاتينية يحذون حذو هنود الحمر في الأسماء الغريبة التي تبدو كصفات فخمة، حتى التأثير الأوروبي لم ينزع عنهم هذه الخصلة، ربما بورخيس أكثرهم بعداً عن هذا ربما لكونه أرجنتينياً يعتبر نفسه ذو عقل أوروبي منفي بالرغم من أن الأرجنتيني خوليو كورثاتر كان منفياً في أوروبا نفسها قبل أن يحوز على الجنسية الفرنسية

((هامش - في كتاب عصر التطرفات ضمن الفصل السابع عشر والذي بعنوان: موت الطلائع – الفنون بعد عام 1950 يقول إريك هوبزباوم عن أدباء أمريكا اللاتينية – أن معظم مثقفي جنوب المكسيك كانوا، في الفترة بين الخمسينيات والتسعينيات على وشك أن يصبحوا لا جيئين سياسيين عند منعطف ما من منعطفات حياتهم، مما يؤكد وجود صلة لذلك بالإنجازات الثقافية التي تحققت في ذلك الجزء من نصف الكرة الغربي. صـ 872)).

داخل مكتبتي كنت أشدد على الأسماء بقوة. لا مكان للتميز بين الكتب، إنها جمهورية شيوعية ذات طموح هائل. في ألف ليلة وليلة مشكلة مشابهة تتعلق بالأسماء، فالأبطال يحملون صفات مذيلة باسمائهم، صفات مثل – المتيم المسلوبقوت القلوب، كما أن اشهر اسم حكائي مرتبط بالكتب هو شهرزاد وشهريار النابعين من ألف ليلة وليلة. أتساءل أحياناً عن نظرتي الحقيقية تجاه الأسماء، فالديكتاتور الليبي كان يمنع الأسماء الغير العربية من التداول في السجلات العامة، تحدثتُ مع رجل كرغلي

((هامش - الكراغلة أو كول أوغلية هم ابناء الأتراك من العربيات، كما جاء في الحوليات الليبية. حكموا ليبيا خلال فترة طويلة قبل أن يحرموا من سماتهم الثقافية بداعي التعريب، هذا الرجل حكي لي القليل ولكنه مفيد عن نضاله لأجل الإسم، إلا أنه قال بحماس بأنه يعتز بثقافته العربية، وإمعاناً في حماسه طلب مني أن أنسى ثقافتي الخاصة، وأن نندمج في الثقافة العربية بشكل كامل، لم أكن أعاني الإنسلاخ وفقدان الهوية، لكنني استغربت منه هذا في نفس اللحظة التي يشرح لي خلالها عن نضاله لأجل الإسم، في نظري الإسم ثاني عناصر الهوية ربما الأول بعد اللغة ربما حتى قبلها، فالإسم حتى في اللغة الأخرى توحي بهوية صاحبها، سمعتُ مؤخراً أن تركيا تمنع بعض الأسماء التي لا تمثل القومية التركية منها الأسماء الكوردية، بالرغم من أن أحدهم كسب محاكمة لإتخاذ اسم كوردي. التاريخ يدور في بقعة واحدة، حتى بعد تمازج الكراغلة بالعربية مصاهرة واسماً عادوا بعد سنوات طويلة يتازعون حول التسميات، كأن العالم يعود لإكتشافات الهويات مجدداً، لا أحد يعرف إن كان الأمر صحياً، لكنه يحدث لسبب ما)).

في ميدان الشجرة المشابه لساحة التحرير في قوتها، قبل أن تخطفه القبائل، حكى لي الرجل الليبيرالي عن علاقته بالأسماء، كان قد أراد أن يسمي ابنه باسم غير عربي بنظر السجل المدني الليبي وكان الأسم هو آغا بدا لأساطين الدولة أن يحوي أبعاداً تاريخية غير مرغوبة، كما أننا نحن كشعب التبو – التيدا عانينا من الأسماء مع السجلات المدنية، الأسماء العربية التي فُرضت على الجميع جعل من رد الفعل عنيفاً، بحيث صار للأغلبية أسماء على الورق عربية وأسماء آخرى مستمدة من التاريخ الشعبي، متداولة بين الأحياء التيدا. قد يكون احدهم يحمل اسم سعيد في العربية ويدعي – كوناي بالتباوية، للدولة اسمه العربية دون أن تعرف الإسم الآخر، للشعب التيدا اسمه التباوي دون أن يكونون مضطرين لمعرفة اسمه العربي، الأمر تحول مع الأيام لمعضلة أمنية تعاني منها الدولة، أحياناً الأسماء توقع في معضلات كبرى. قمعي المتواصل للأسماء خف كثيراً بعد حديثي مع الكرغلي الذي انتصر في معركته قبل قيام الثورة، كنت وقتها قد كتبت المسودة الأولى من الرواية، وضعتها بين يدي صديق أثق بأحكامه، البطل كان بلا اسم وأسماء الشخصيات الآخرى كانت مجرد بدايات أحرف، الشخصية كلها مختصرة في حرف صغير، مثل " ف " حين قرأ صديقي المسودة قال لي بأن الأسماء محزنة جداً، كأنها غير كاملة، فالحرف مزعج كإسم. كان شعوراً وثقت به، نسفتُ على إثرها الرواية كلها، الغير مفهومة، فبدأت بإعادة كتابتها ولكن بأسماء هذه المرة، دهشت لمقدار فرض الإسم لذاته، مجرد أن حولت " ف " إلى اسم " فاطمة " جعل من الأحداث محتدمة على نحو مثير، حين انتهت من نص الرواية في مسودة أولى جديدة، وجدت بأنها مختلفة تماماً عن مسودة النص الأول، كأنهما نصان مستقلان عن بعضهما، دهشت لمقدار سطوة الإسم على النص. فالأنسان إنسان لأنه يعرف الأسماء ويمتلكها.

" أن تحدد اسماً خاصاً بك معناه أن تصنع عالماً خاصاً بك لا يستطيع حتى أعتى الديكتاتوريين التحكم به ".

ألم يُعلم الله أدم الأسماء كلها فصار مميزاً حتى عن الملائكة؟

6

القراءة غالباً ما تأخذ شكل من التذكر. كنت أقرأ مجلات العربي ومجلدات صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية، لأستغرق في ذكريات الخاصة، تفطنت لهذا ذات مرة حين وجدتني قد قلبتُ ما يساوي مئة وخمسين صفحة، كنت خلالها قد استعدتُ ذكريات براقة عن طفولتي البعيدة، رايتني ألاعب كماناً صغيراً، ثم أركض هارباً من أول شخص يتحدث بالعربية رأيته، بدا لي غريباً ربما كنت في الثالثة، وهذا ما قالته لي والدتي متعجبة، كنا في حفل طهور ابن عمي لي يسكن مع والديه في الحي العربي من البلدة، حين وقع ذلك وحملني الرجل حتى باب بيت عمي، أمي كانت في الصالة حين أدخلوني عليها وأنا اصرخ بشدة، كنت لا أخشى الآخرين كثيراً، لا أعرف ما حدث تلك الظهيرة، كنت جالساً مع بعض الصبية الأكبر مني بسنتين أو حتى أربع حين انتفضوا فجأة وركضوا هاربين، أردت ان ألحق بهم فتعثرت بسلك على الأرض، عندها بدأت بحمى الصراخ، التي ازدادت شراسة مع تحدث الرجل، الذي أفترض الآن أنه كان يحاول تهدئتي. لاحقاً حين بلغت السادسة، كنت قد عدت لتلك المدرسة كطالب في مدرسة ذلك الحي المسمى بالسوسي، شاعرنا الليبي الكبير حسن السوسي

((هامش - حين كنت أزور المكتبة الوطنية أراه جالساً بهدوء، يقلب أوراقه على طاولة مميزة، وقد بلغ من العمر عيتاً، لكن شغفه للعشر والكلمات لم يخفت مطلقاً، يرسم بقلمه أجزاء قصيدته، يقلب أوراقه بصمت، كان مشهداً نادراً في بنغازي، ظلتت أراقبه من بعيد، وقد عرض علي كاتب أن يُقدمني إليه، لكنني رفضت، بدا الرجل محتاجاً لكل وقته لإنهاء أمر مهم، منكب عليه بكل تركيزه، لكنني حلمتُ به وهو يلقي قصيدة على في مشهد هائل ضمنته روايتي – موت غير طبيعي)).

كان من تلك المنطقة على ما أعتقد، المهم ما تذكرته لاحقاً كان مرتبطاً بشدة بذكرى العودة، التي ربما كنت أتذكر وقتها ما حدث لي في الثالثة لقرب العهد، بعض الذكريات نتذكرها لأننا تذكرناها في وقت سابق وهذا ما حدث معي أثناء قراءتي لبعض الكتب. عرفت عندها أن –

" القراءة نوع من إستعادة الذات ".

هذا ما يحدث لي الآن حين أعيد فتح كل كتاب من مكتبة والدي. الكتب التي حملتهم معي على متن الحافلة إلى بنغازي. أتذكر المكان الذي جلستُ لمطالعتهم، الموسيقى المروكية التي صاحبت قراءتي للكتاب، المعضلات التي كنت فيها، الأصدقاء الذين تعرفت عليهم في تلك الفترة، الكتب ذاكرة مساعدة بالنسبة لي. حين أخبر بعض الأصدقاء وأهلي هذا، يستغربون من كلامي فبالنسبة لهم ذاكرتي لا تستوعب سوى ما أحمله من كتب، كأنني فرغت نفسي من أية أهمية لشيء أو شخص إلا الكتب، فإنهم ذوي اهتمام بالغ. بعض أفظع لحظات حياتي هي تلك التي كنت مضطراً خلالها لبيع عدة صناديق من الكتب بسبب صعوبة حياة المدينة، أن تجد كتاباً في بنغازي أمر نادر الحدوث، أن تبيع كتاباً نادراً في بنغازي، أمر دائم الحدوث، رأيت ذات مرة كتاباً معروفاً وقد حمل صندوقاً بدوره ليبيعه لصاحب محل كتب مستعملة، كنت أعرف الكاتب من خلال كتاباته النقدية الرائعة، من خلال قلمه البراق، رأيت صوره الشخصية على الإنترنت، كأحد محركي ثقافة بنغازي، يبيع صندوقه لحاجته المالية، كانت كتباً رائعة، وضعهم على الأرض، وكشف صاحب المكتبة على عناوين الكتب بجانبي، وجدتها عناوين نادرة، ومدهشة، ثم حدد سعراً بخساً لتلك العناوين، كتاب واحد منهم يساوي أكثر بكثير. نكس الكاتب رأسه بحزن وباع مجموعته. كم كان مؤسفاً ما حدث؟ والمؤسف أكثر هو إنني لم استطع أن أتمالك نفسي فإشتريت نصف تلك المجموعة بسبعة أضعاف سعر البيع. كرهت من قلبي أصحاب المكتبات، كرهت باعة الكتب المستعملة، لأنهم يستغلون أصحاب المكتبات المنزلية، كل كتاب في تلك المحلات

((لأنها أبعد ما تكون عن أخلاقيات المكتبة، المكتبة التي تجعل من الفوضوي منظماً، ومن صاخب هادئاً، ومن أكثر الأشخاص نزقاً إلى مراعي لمشاعر الآخرين، لفرط السطوة التي هناك، إن أخلاقيات المكتبات لا تقارن بتلك المحلات التي نضطر للشراء منها بسبب الجوع القرائي لا غير، أما في المكتبات الحقيقية، فيشعر القاريء بالنظافة الروح والثقة، حين تستعير كتاباً فإنك لا تمتلكه، بل تصاحبه لفترة ثم تتركه لصديق آخر، للكتاب حرية الذهاب والعودة، ومشاركة الأفكار بالحواشي والحوارات التي يجدها الآخرون في صفحات الكتاب )).

كإغتصاب علني، وبيع للرقيق، هذا ما توصلت إليه، كنت قد جمعت ما يساوي تسعين كتاب في عدة صناديق، قلبي لم يستطع أن يقرأ من المجموعة أي كتاب. في تلك الفترة تذكرت فيلماً بعنوان– الإعصار – كتب عنه المخرج خالد يوسف على ما أعتقد مقالة رائعة عبر صفحات – أخبار الأدب المصرية، الفيلم بطولة دينزل واشنطون سيرة ذاتية لبطل ملاكمة تظلمه الحكومة الأمريكية ويحبس أكثر من نصف عمره، بتهمة ظالمة من قبل شرطي فاسد، في الفيلم يحدث أن يختار أحد الشخوص كتاباً من مقلب الكتب المستعملة، وكان محتاراً أي كتاب سيختار، عندها يخبره أحد اصدقائه –

" لا تهتم الكتب هي التي تختار ".

كنت متأكداً بأن المجموعة التي في صناديقي لم تخترني قارئاً. ربما كنت في نظرها عدواً أو مغتصباً. الفكرة أرعشتني، طوال سنة من امتلاكي لتلك المجموعة، في تلك السنة من عام 2007 تفرغتُ لقراءة مجلات العربي والمختار والناقد. بعدها لأول ظرف صعب قمت بحمل تلك المجموعة وعرضها للبيع على نفس المحل.

كان في المجموعة –  تاريخ هيردوث، رامايانا والشهنامة، وكتاب فاطمة أوفقير حدائق الملك قصص كانتبيري لتشوتسر، حكايات الأخوين غريم، نسخ ألف ليلة وليلة طبعات قديمة – كنت أمتلك طبعة بيروتية أكبر حجماً وسمعت عن طبعة عراقية ضخمة – كما كان فيها رواية البشموري وأولاد حارتنا

((هامش - بعد سنتين من ذلك الوقت تعرفت بإحدى اكثر النسوة صمتاً، ظهرت في حياتي فجأة ثم غادرت فجأة برقة إنسياب مياه الأنهار، كانت تبدو لي معذبة، مسكونة بزمن قديم، في عينيها المعتمين كغزالة حزينة، تاريخ مؤلم، أهدتني كتاب – أولاد حارتنا – بعد أن أهديتها رواية التبر لإبراهيم الكوني، أخبرتني بأنها تساءلت طويلاً عن إسم أوخيد بطل النص الذي صدف أن مر عليها سابقاً لدى أحد معارفها في الصغر)).

 بالإضافة لبعض مجلدات قصة الحضارة، والترجمة الشعرية لكتاب هوميروس قام بها البستاني.

بعتُ تلك المجموعة الكبيرة وقد ندمتُ لاحقاً، لا أعرف لأي سبب، لكنني شعرت بأنه الندم أمر ضروري، كمن يتلقى عرض لقاء احدى الحسناوات فيرفض لسبب مجهول، ذلك الرفض قد يكون مصدر فخر له وقد يغدو مصدر ألم لتفويت الفرصة، لم أجد بعدها كتاب تاريخ هيردوث مطلقاً كما لم أجد الشهنامة. لكنني استعدت ذاتي ونقاوتي مع الكتب. تلك النقاوة التي تضيع مني في لحظات صعبة لأقوم باستعادتها ضمن لحظات أصعب، حتى بدا لي الأمر كصراع مع شيء مجهول، ساحته صفحات الكتب، لذا ظننتُ بأنه صراع أبدي، فحياة الإنسان للأسف أقصر من صفحات الكتب.

كان عندنا مدرس عراقي يتباهى قائلاً –

" العالم يؤلف، بيروت تطبع والعراق يقرأ ".

كنت أحور كلامه لأضع بدل العراق اسمي، لأصبح انا من يقرأ مؤلفات العالم التي تطبعها بيروت، لاحقاً عرفت بأن الجميع يضعون أنفسهم مكان العراق، بالرغم من أن اسماء مثل – المتنبي

((هامش - هو نفسه القائل – وخير جليس في الزمان الكتاب. لذا أعتبر الكتاب لدى البعض كإنسان آخر يعامل كعلم عاقل ليس كجمادات. وهذا ما تعلمت على فعله سواء هنا أو في أماكن آخرى إلا في تلك اللحظات التي تأخذني خلالها سياقات الأحاديث لإتباع العادة، هنا أبحث عن العذر بأن خطأ شائع خير من صواب مهجور بالنسبة للغة طبعاً))

بالإضافة إلى الجواهري، أحمد مطر، حسن مطلك، فؤاد التكرلي، عبد الوهاب البياتي، نازك الملائكة، محسن الرملي، سنان أنطون والمئات غيرهم من العباقرة الكتب يؤكدون بأن العراق فعلاً يقرأ. كما شاهدت في وقت قريب معارض متميزة يقوم بها شباب الرافدين وعشتار وبغداد، التي لمع اسمها كالقمر البهي في ألف ليلة وليلة، كاسم شهرزاد نفسها.

بغداد شهرزاد المدن.

7

الكتب بالنسبة لي إرتباط روحي، إنها تمثل سيرتي حتى الآن. أحياناً أتذكر احدى أقدم الكتب المدرسية التي قرأءتها – " على هامش السيرة ". لطه حسين. بطريقة ما تحولت حياتي كلها إلى قراءة السير الذاتية، وتعدى الأمر حتى كتاباتي التي أصبحت كنوع من السيرة أو على هامش السيرة الذاتية. طه حسين وضع نصب عينيه تاريخاً غريباً لأشخاص نعرفهم ولا نعرفهم، علمنا بأن الأسماء تحوي تاريخاً عظيماً ومواقف مشحونة بالعواطف، تحدث عن اشخاص فقدوا أسمائهم كعمرو بن هشام الذي اصبح في التاريخ الإسلامي يسمى بأبي جهل كأنه لا يستحق اسمه. رأيناه في نص طه حسين لامنتمياً، غاضباً من عبادة الأصنام، يصاحب رومياً يبع الأنبذة ويراقص الروميات بابتهاج، كشاب من الإرستقراطية المكية وقتها، لا أعرف لما يذكرني بجورج بوش الإبن، وببعض مشاهد مسلسل الزير سالم في الحانات. الأمر فيه نوع من العبثية. الثلاثة ذوي اسماء لا خصوصية فيها، الثلاثة كمحبي البهاجات دوماً يضطرون لإتخاذ مواقف وقرارات مصيرية، غالباً من تنتج عنها حروب طاحنة يروح ضحيتها المئات من الأبرياء، وهذا ما فعله بضبط كل من هؤلاء الثلاثة. يجدون من يدعمهم بعد ما كانوا مجرد محبي لهو، ليكتشفوا بأن هناك فرصة للتميز هنا، أبو جهل كان يود أن يفوق مجد الوليد بن المغيرة ربما ليغدو سيداً بلا منازع، نرى في نص طه حسين مدى التوتر الذي يحياه الرجل في حياته، ليتشبث بأمور صغيرة جداً ويعطي قرارات تشابه تلك التي يجد أبطال دوستويفسكي أنفسهم في خضمها، شخص نسي بشدة مقدار نفسه. يكره ما يحب، ويحب ما يكره، كان له فرصة كبيرة ليكون مسلماً، وقائداً عظيماً، فشخصيته كما صورها طه حسين تُظهر رجلاً كان بالرغم اللهو والعبث، ذو كاريزما هائلة التأثير، شخصية يمكن أن تجد يداً تصلحها، لكن يد الشيطان كانت أقرب إليه من يد الهداية، ولا تهدي من أحببت، حتى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام الذي حوى اسمه لم يُقدر له، أي أبي جهل الإهتداء.

السيرة غدت لعبتي في أغلب قراءاتي. ربما من أكثر الكتب روعة في السيرة الذاتية تلك التي كتبها الأديب والمفكر السعودي غازي عبد الرحمن القصيبي بعنوان– حياة في الإدارة. لا توجد في العربية نص بمثل هذه الطزاجة والقوة، الدقة والعودة الأشبه بصورة سينمائية للماضي، ليس ماضي مشحون بالفلسفة، بل ماضي حر هاديء، يغدو مكتملاً كقطعة رغيف أو كوجه القمر، تستطيع أن تجد فيه كل شيء، الشعر والسياسة والفلسفة، بتناغم رائق. حين قرأت مئة صفحة الأولى من الكتاب، شعرت بتلك الرعشة التي سرت في جسدي، وتساءلت رغماً عني – كيف يمكن كتابة هذا الجمال؟ ثم وجدتُ هذه الخاصية في كتابات آخرى ايضاً سعودية وعلى عكس أغلبية القراء حين قرأتُ بنات رياض لرجاء الصانع أعجبت بالكتاب وحمدتُ الله لاحقاً إني قرأته قبل قراءة النقد حول الكتاب. فالرواية بالنسبة لي أرتني أشياء كثيرة جميلة ومدهشة علمتني أموراً أجهلها. والزمن سيظهر مقدار فرادة هذا الكتاب في التاريخ الأدب السعودي والعربي.

بمناسبة الأدب السعودي، جلست ذات مرة أقرأ أرشيف موقع –  جسد الثقافة فوجدتُ نصاً قصصياً بعنوان –  وزارة الأسرار – لكاتب شاب يدعى عدى الحربش، ما إن قرأت النص حتى وجدتني غارقاً في أغلب النصوص التي كتبها الكاتب الذي عرفتُ بأنه طبيب يسكن في كندا – وقد تكون معلومات مغلوطة – يكتب الفانتازيا التاريخية، لكنه يبدو كباحث اثري يستخرج الوجه الآخر للتاريخ، ممزوجا بالفن والفلسفة والسيرة أيضاً، كأن هناك اتفاق بارع بين كتاب السعودية، أو أن الأدب نفسه قد غدا يتحول أو يكشف أنه كتابة سيرة على كل حال، أهديتُ النص لصديق فإتصل بي قائلاً – " بأنه لم يتوقع شيئاً عبقرياً هكذا من الأدب السعودي ". عرفتُ بأنه أعجب بالنص وإحتفى به. في جسد الثقافة وجدت الأدب السعودي براقاً كالماس، يعد بالكثير.

طبعتُ قصصاً على الورق، ضمنتها مكتبتي.

أغلب النصوص التي سحبتها على ورق الطباعة A4 تقبع بهدوء في مكتبتي، القسم الجديد من مكتبتي، المخصص للنصوص الإلكترونية المسحوبة. فيها كتابات أشخاص مهمين في الأدب العربي الحديث من أمثال – سمير الفيل وناصر عبدالستار القاص العراقي، ومحمد المخزنجي بقصصه النادرة واستطلاعاته عبر العربي، أحمد شاكر الشاب المصري المذهل بقصصه القصيرة التي تذكر بإبراهيم أصلان.

طباعة النصوص كانت عادة اكتسبتها في نيس الفرنسية حين بدأت بقراءة نصوص سيناريوهات أفضل الأفلام الأمريكية. كفيلم آخر رجل يصمد والأفلام المقتبسة من روايات الكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد. المهم كنت أواصل كتابة نصوصي الخاصة وأنشرها على الإنترنت، أغلبها كانت مستمدة من يومياتي القصيرة، اليوميات التي ملئت لاحقاً ما يساوي ثلاث دفاتر كبيرة، ولقد قمت بإحراقها في لحظة مهيبة من زماني المنصرم، رايتها تنكمش وتتوهج ثم تخفت، حين أخبرتُ خالي المثقف بما فعلت، حزن بشدة وأخبرني بأنه كان يكتب شعراً مذهلاً بحسب كبار الشعراء وقتها في البلدة، لكنه في لحظة ما قام باحراق ديوانين مخطوطين ظلاً معه طويلاً، أخبرني بأنه ومن يومها لم يعد يكتب الشعر، حتى بعد أن حاول الرجوع للشعر، لم يستطع، الموهبة تحتاج إلى الإهتمام والإحترام من قبل الموهوب كما قال يومها. هو فقد تلك الموهبة لعدم احترامه لها.

بالنسبة لي فإنني فقدتُ قدرة الكتابة على نحو جيد منذ تلك اللحظة. هناك أمر يرهق كلماتي بشدة حتى لتبدو كجياد متقدمة في العمر، وذات أمجاد قديمة لم تعد حية. تخرج بثقل وعنف متخيل من خلال أصابعي التي أطبع بها. غالباً حين أطبع ألفين وخمسمائة كلمة أتفرغ لقراءة كتاب ما دائماً بجواري أحياناً يكون كتاباً تاريخياً كـعصر التطرفات لإريك هوبزباوم وربما يكون كتاباً لأحد ألاعلام علم النفس التحليلي كإريخ فروم. في سن مبكرة اي قبل العشرين، كنت أستخدم كتابين كمنابع لإعادة قدراتي الكتابية، الأول لصادق النيهوم – تحية طيبة وبعد أما الثاني فهو كتاب لجبرا ابراهيم جبرا بعنوان السفينة. حين كبرتُ في العمر تغير كل شيء، بدأت أهتم لكازانتزاكي وبورخيس وهمنغواي اهتماماً بالغاً، كما بدأت أقرأ لكافكا وماركيز وفولكنر. ففي سنة 2007 أكملت كتابة نص عن سيرة شخص ايطالي غاص في معضلات الحروب الثانية في أوروبا، ممنياً نفسه فرصة السفر إلى نيويورك، القصة كانت بعنوان – حانة النبيذ الأحمر – حين أعود إليها الآن أجد بأن فيها كلمات لم أعد أمتلكها في نصوصي التي كتبت بعدها بسنتين، لا أعرف إن كان اختفاء تلك الكلمات يعني تغييراً في الأسلوب أم فقداناً للذاكرة فيما يخص تلك الكلمات، أحياناً أظن بأني تغير الكُتاب الملهمين هو ما يسبب ضياعاً في الكتابة وخفوتاً في قوة النص، أقول هذا بسبب تجربتي البسيطة في الكتابة، قد يكون هناك اساطين يختلفون معي ويرون لكلامي على أنه سذاجة، لكنها تجربتي على كل حال، ولي الحق في قول ما استنتجته منها. هذا الأمر دعاني لأن أعود لقراءة النيهوم، ذات مرة خرجت واقتنيت مجموعة من كتبه، متذكراً ما كتبه سمير عطالله في الشرق الأوسط من أنه لا يسافر إلا وكتب الصادق النيهوم والطيب صالح في حقائبه، المهم مجموعة الكتب التي اقتنيتها هي – الكلمة والصورة، أسئلة، نوارس الشوق والغربة، الإسلام في الأسر. خرجت منها برأى باهر – هو ليبي اصيل بلا شك. الأمر اشبه بالبوصلة حين تفقد طريقك، تعود إليه وتقرأ بعضاً من كلماته، فتعود لجادة الصواب. لطالما كان مرشداً لي هو  وخليفة الفاخري القاص الليبي صاحب الأسلوب الفريد في كتبه مواسم الحكايات – غربة النهر – بيع الريح للمراكب. وبصحبة الشاعر محمد الشلطامي بداووينه التي تحوي الروح الليبية الحقيقية التي أخذت تختفي بسبب الكتابات المستعجلة وسطوة السياسة على المشهد الإجتماعي وضيق المعيشة، حين يعود المرء لكتابات الأدباء الستينيات خصوصاً في بنغازي يجد الشهد الحقيقي للأدب الليبي. الأدب الذي تاه تحت أقدام الأدباء العمالقة في العالم، بعض الأدباء، تغدو قراءة الأدب الغربي عندهم أفضل من كتابة أدب ليبي يكشف عن الذوات، بالنسبة لهم الأمر غير مفيد، والبعض الآخر ترك قراءة الأدب الغربي لإعتبارات تاريخية، أما البعض الآخر فيكتب محبوساً في قمقم كتابات الغربية دون وعي ذاتي وبلا خيال

((هامش - أريد هنا أن اشير إلى أن بعض الكلمات لها وقع سيء في مجتمعاتنا، فكلمة مثل الفلسفة تعني عند الأغلبية الحديث الفارغ الذي لا طائل من ورائه، مع إن الكلمة المقصودة هي الثرثرة، كنت ذات مرة استمع لطبيب سلفي إنبرى لكي يشرح لي تفاهة الفلسفة فقال بأن الفلاسفة رجال يقضون وقتهم في غرفة ليخبرونا بأن الماء هو ماء، وإن إنهم لا يصمودن في الحياة الحقيقة وإن الدين الإسلامي دين عمل. على كل حال استمعت إليه بكامل هدوئي ولم أحاول لمرة أن أغير مفهومه عن الفلسفة، لأني لم أرد أن أخوض نقاشاً عقيما يقف فيه أحدهم موقف الدفاع عن الله، لكني توصلت لفكرة مفادها أن بعض الكلمات له حظ سيء مع شعوبنا منها كلمة الخيال، حين يصفون بعض الناس بالخيالي. كأن الخيال أمر معيب، وإنه سوء في التفكير أو نقص في العقل وربما الحزم والرجولية، مع إن الشواهد تقول بأن الخيال هو اصل كل تقدم علمي وسبب تقدم كل شيء في الحياة، إذ لا تستطيع أن تقدم على مشاريع كبرى دون تخطيط، وهنا ستضطر لإستخدام الخيال في التوقعات المستقبلية، وحتى الفلسفة التي فتحت في التاريخ الغربي أبواب هائلة للوصول للعلوم التي نشاهدها الان كان سببها أن البعض استخدم خياله لتخيل أوضاع أفضل، سواء في الجمهورية الفاضلة التي نسيء فهمها على الدوام أو في محاولات أرسطو لمعرفة اسباب خروج القمح من بذور القمح وليس التفاح مثلاً على إعتبار إن هذه الأفكار كانت بدايات التفكير في علم الوراثة والأجنة. ما أود قوله هنا هو أن الخيال مثل التكفير جزء من عمل العقل)).

 فالتوزع الرهيب للمشهد الثقافي الليبي يأخذ شكلاً غريباً، فمثلاً كنت في احدى المكتبات الصغيرة في سوق الحوت، حين دخل كاتبان أعرفهما وبالطبع لا يعرفانني، أخذا يتصفحان الكتب بصمت، ثم اشار احدهما بلا مبالاة واضحة لكتاب " الغريب ". للكاتب ألبير كامو طالباً من صديقه قراءته، فقال الصديق–

" إنه كتاب يحتاج لمعرفة التاريخ الأوروبي، وهذا ما لا أمتلكه الآن ". تعجبتُ من رده الغير المقنع، كنت قرأت الكتاب دون أن أعرف شيئاً عن تاريخ أوروبا، لكنني عرفت بأن الرجل يتحدث عن واقع بدأ ينمو في المجتمعات العالمية، عن شخصية جديدة تولد بهدوء دون أن تشعر السلطات سواء الدينية أو الأخلاقية السياسية. أردت أن أدعوه لقراءة الكتاب لكنني اكتفيت بشراءه فقط، بالرغم من إني قرأته عند صديق. لسبب ما هناك كسل عقلي يجد دوماً عذراً لعدم فعل أمر يجب فعله. مثلاً – قرأت ذات مرة حوار مع كاتب ليبي مجيد في الشعر، سألوه عن كتابة الرواية، فقال بأنه يمتلك قصصاً جيدة عن أزقة وحواري بنغازي، وإن بوسعها ان تكون نواة رواية جيدة، لكنه لا يمتلك الأدوات لفعل ذلك. شعرت بالغضب لقراءة هراء كهذا ففي شعره كل أدوات كتابة الراوية.

لا شيء مؤسف أكثر من رواية جيدة لا تُكتب.

الراوية الجيدة أمر غريب جداً في نظري، فحين قرأت " غاتسبي العظيم ". للمرة الأولى لم افهم الكتاب، كذلك رواية غسان كنفاني القصيرة والتي بعنوان " ما تبقي لكم ". الفهم كان أمر محدوداً لسبب ما ربما ظروف المعيشة أو ضغط الحياة. المهم إني فقدت الجزء الأكبر من متعة الكتابيين، المتعة التي وجدتها في القراءة الثانية للكتابين بعد سنوات لاحقة. ما حدث هو إنني حين انتقلت لبنغازي، طفقت أعبر الأزقة والشوارع لحفظها، كنت غريباً في أمور بسيطة مثل الملابس، أسلوب اللبس والتأنق، شباب بنغازي يتعرفون على بعضهم عن طريق الملابس والموضة، إي شخص يرتدي بخلاف الموضة السائدة، يكشف عن أنه إما من الضواحي أو من الخارج، كنت أنا من بلدة تبعد ألف كيلو متر عن بنغازي، تدعى الكفرة مثل الكفر باللهجة المصرية، هناك اشخاص يرجعون الإسم للنوبيي مصر وإنه كان عفرا قبل أن تحور بفعل الزمن، هذه البلدة كانت مختلفة عن بنغازي في كل شيء، غالباً الأشياء تتحرك من بنغازي بطابع المدينة وتتجه إلى بلدتي، وعلى الطريق الصحراوي تكتشب الأشياء طبيعة اخرى مختلفة تماماً عن طبيعة بداياتها، تتحول لأمر كفراوي – هنا أقول بأني حين سمعت باسم القاص المصري سعيد الكفراوي تخيلتُ بأنني على صله به ولو بالإسم حتى لو كان محض تشابه – ولكن بلدتنا باللغة التباوية تحمل اسماً آخر هو – تازر.

غاية الحديث هو إنني حين كنت أتجول في بنغازي أوقفني أحدهم ومن لهجته أفترضت أنه سوري سألني عن مكان يقصده. عندها وصفت له الطريق بكل وضوح، كانت الصورة تظهر في ذهني ولفرط الحماس صعدتُ معه الحافلة، اوصلته عند باب مقصده.

حين تركته عائداً كنت كمن عاش ما حدث فعلاً في السابق، تذكرت احاديث الشيخ أحمد الكبيسي على قناة دبي عن عالم الأمر وعالم الحقيقة، أن تفعل شيئاً ثم تشعر بأنك عشته من قبل، تفسير الشيخ هو أن عالماً قبلنا عاشت فيه أرواحنا من دون أجسادنا وإننا الآن بأجسادنا نعيش ذات العالم بذات الظروف ولكن بالخيارات. هذا التفسير لم يهديء خاطري، طوال الطريق أخذت استغرق باحثاً، كنت أعرف بأني قرأت هذه الفقرة في مكان ما من صفحات كتبي، عندها تذكرتُ غاتسبي العظيم، الذي عرف بأنه جزء من المدينة الجديدة التي هاجر إليها، لأنه دل أحد الغرباء لمكان ما في المدينة.

بعض الروايات تحتاج لحافز من الحياة، أن تشعر بأن هناك أمراً مشتركاً بينك وبين شخصيات الكتاب، أن تشعر بأن أحدهم عاش ما عشته فعلاً، فينتابك الفضول لمعرفة كيف تصرف هو. ذات مرة أخذت كتاب مذكرات كازانتزاكي لأحد الشبان المقاتلين من الجبال. في نفس الجلسة فتح الكتاب وقرأ الصفحة الأولى، صرخ ثم جثم على ركبتيه مستغرباً من حديث كازانتزاكي الجريء عن الموت، كان صوت كازانتزاكي يرن على أوتار قلبه كالقوس المشدود

((هامش - قابلته لاحقاً بعد فترة الحروب الأهلية، كان قد اصيب بعيار ناري ثقيل، دهشتُ لمدى الأفكار التي توصل إليها من تجربته بالرغم حداثة سنه، كان يتحدث بالحكمة نفسها التي يتحدث بها والد كازانتزاكي في النص تقرير إلى غريكو، لدرجة إني لم أعرف إن كانت أفكاره فعلاً أم هي ترسبات ما قرأ في كتاب المذكرات، تمنيت أن أعرف الأمر فعلاً لكنني لم اسأله، لأني خشيت أن أجرح مشاعره أو أن أتهمه بالإنتحال. لكنني ربما سأفعل يوماً حين تهدأ الحياة السياسية المتعكرة، وتصبح الأمور مجرد ذكريات)).


8

بعد سقوط الديكتاتور الليبي وجدتُ نسختي من رواية مئة عام من العزلة. فجأة ملئت كل المكتبات الليبية، بسعر خيالي. كنت قبلها بمدة قرأت أن الكاتب منح حقوق النشر لأول مرة منذ صدور الكتاب لدور النشر الصينية، استغربت لكوننا حرمنا من الكتاب بقدر ما حرم منها الصينيون طيلة هذه السنوات، بدا لي الأمر شارحاً لمدى العزلة التي تعانيها ليبيا. تفرغت كلياً لقراءة الكتاب في شهر أغسطس 2011 كل الكلمات تعبر في ذهني، كل الصور، الشخصيات الحوارات، الرغبات والصراخ، وأكل الديدان والفتاة التي صعدت السماء، السفينة التي تم إيجادها في قلب الصحراء، وأيضا حين ذهب الكولونيل أوريليانو لصديقه المقبوض عليه الجنرال خوسيه راكيل مونكادا قائلا له–

" تذكر يا صاحبي أنني لست من يعدمك، وإنما الثورة ".

هذه الفقرة كانت احدى لحظات المجد في الرواية اعدت قراءتها مرات عدة، قمت بعدها مهووساً، كتبتها على ورقة جانبية وأريتها لصديقي. كان الكتاب قد جاء في وقته هو الآخر، عاصفة هائلة من الأفكار عن الثورة، تمنيت لو طالعها كبار رجال الثورة، الذين يحركون الكتائب الأمنية المشكلة من أعداد المستطردة من الثوار، ليعرفوا أن كراهية العسكر قد يحول الثوار إلى نوعية أسوء من العسكر أنفسهم، يتحولون إلى ديكتاتوريين لا يهدأ ضمائرهم إلا بقتل أقرب الناس إليهم. غارسيا ماركيز وضع جل مشاعر الإختلاف في الثوارات ضمن كتابه المتفوق، المغرق في مشاعر الجمالية ورؤية الحياة بمنظور مادة الحلم التي يمتاز بها الشعراء في الأساطير. حين انتهيت من صفحات الكتاب بتلك العاصفة التي محقت السلالة

((هامش - في ألف ليلة وليلة بالطبعة البيروتية نهاية الجزء الأول، يرتبط شركان بعلاقة مع أخته ابنه الملك النعمان دون معرفته وهم على أعتاب حرب هائلة مع بلاد العجم والرومان، حرب ماحقة. إرتبط في ذهني بين الأمرين لسبب غير معروف فالمحرك الحقيقي لروايات ألف ليلة وليلة هي الجنس والعنف، كما كتب الأديب الرائع الليبي أحمد إبراهيم الفقيه في روايته الأولى من ثلاثيته –  سأهبك مدينة أخرى – والتي صدرت بداية التسعينيات ضمن السلسلة الروائية لرياض الريس – وتبدو فكرة صحيحة جداً وواضحة، السبب الرئيسي للقصص هي خوف شهريار من الخيانة وخوف شهرزاد من القتل، لم يكن للعشق أدني علاقة بالأمر، شهرزاد لم تكن تعشق الأمير – على الأقل خلال ليلتها الأولى – كذلك في مئة عام من العزلة لم يكن العشق هو ما يحرك المشاعر بل الشهوة المدمرة، والقدرات الجسدية البالغة لدى بعض الشخصيات)).

تذكرتُ أن ماركيز حين انتهى منها تمدد بجانب زوجته ميرثديس وغرق في البكاء العميق. النص حافل بتلك المشاعر الجياشة، التي تدفع للبكاء فعلاً، كنت قد انتهيت من كتاب بدا لي إنني لن أجده مطلقاً في حياتي. كتاب أثبت فعلاً أنه مدهش من جميع النواحي.

بعد مئة عام من العزلة قررت أن أعيد قراءة فولكنر وهمنغواي والسيدة الإنجليزية فيرجينيا وولف. قررت فعلاً أن أعيد قراءة كل ما قرأته من قبل. هناك مقولة منسوبة لصادق النيهوم يقول فيها– " إقرأ، إقرأ حتى تسقط، فإن سقطت، قم وإقرأ مرة أخرى ". الأمر بهذه البساطة وبهدا الوضوح. 



شكري الميدي أجي
9 رمضان.
بنغازي 2013
Powered By Blogger